لماذا تهربون من النفط؟
إن إنقاذ اقتصادات دول الخليج من براثن النفط عن طريق تنويع الاقتصاد وإيجاد مصادر بديلة للدخل هو ضرب من الخيال، خاصة أن صناعة البتروكيماويات ـ التي تُصنّف ضمن القطاع الصناعي غير النفطي ـ لا يمكن أن تقوم لها قائمة لولا قطاع النفط، وأن "صناعة العقار" لا يمكن أن تعد تنويعا للدخل، خاصة إذا أصبحت هذه الصناعة هي المصدر الأساس للدخل كما هي الحال في دبي، أو أصبحت تمول بشكل غير مباشر أو غير مباشر بأموال النفط كما هي الحال في العواصم الخليجية.
أما الذين يراهنون على أمور أخرى مثل صناعة العلوم الإحيائية والجينات لتنويع مصادر الدخل فقد تناسوا درسا تاريخيا وهو أن سبب تحول دمشق وبغداد إلى عواصم عالمية لم يكن بسبب "زيارة" الخبراء والعلماء الأجانب لها ليومين أو أسبوعين، إنما بسبب تحول هؤلاء العلماء إلى "دمشقيين" و"بغداديين" واحتضان هاتين المدينتين لهما. ولا يختلف اثنان في أن أحد أسباب قوة الولايات المتحدة، رغم كل مظاهر الضعف فيها، يعود إلى استقطابها العقول من جميع أنحاء العالم وتبنيها لهم. ولا يمكن أن تستقطب الجامعات الخليجية علماء الجينات أو غيرهم في ظل أنظمة العمل الحالية، في الوقت الذي تمنح فيه الجامعات الأمريكية وظائف مدى الحياة. ولا يمكن لهذه الجامعات استقطاب الخبراء حتى فترات قصيرة، إذا أكلت حقوقهم بشكل مقصود أو غير مقصود، أو أصبح الخبير ضحية تصرفات موظف لا تتجاوز مؤهلاته مؤهلات أضعف طالب درّسه هذا الخبير.
حقائق
تتمتع دول الخليج باحتياطيات هائلة من النفط والغاز، ومازال النفط (بشقيه الزيت والغاز) هو المصدر الأساس للدخل في هذه الدول. ويتفق الخبراء على أن النفط سيظل المصدر الأساس للطاقة خلال العقود الثلاثة المقبلة على الأقل. كما يتفقون على أن اعتماد العالم على النفط الخليجي سيزداد مع الزمن. لذلك فإن أهمية دول الخليج الاقتصادية والاستراتيجية ستزداد مع الزمن، ليس بسبب الزيادة في عدد سكانها، وليس بسبب جامعاتها، ولكن كونها دولا مصدرة للنفط. من الواضح أنه مهما تم التخفيف من دور النفط في الاقتصاد، فإن دور النفط سيظل كبيرا. مثلا، حتى لو تم تخفيض اعتماد الحكومات على النفط من 75 في المائة من إجمالي الإيرادات إلى 40 في المائة، فإن هذه النسبة تظل كبيرة (رغم استحالة حصولها خلال 20 سنة المقبلة). من الحقائق أيضا أن شركات النفط الوطنية تسيطر على قطاعات النفط والغاز، وأغلب موظفيها، خاصة في السعودية والكويت، من المواطنين، وهناك خبرات وطنية على مستوى عالمي في مجال النفط.
تنويع مصادر الدخل عن طريق "التركيز" على النفط
مهما حاولت دول الخليج تنويع مصادر دخلها فإن النفط، بسبب حجم احتياطياته وأهميته العالمية، سيظل يلعب دورا رئيسا في اقتصاداتها. ومهما حاولت هذه الدول تنويع مصادر دخلها، فإن العالم كله سيظل ينظر إليها على أنها دول نفطية. ومهما حاولت التخلص من "سمعة" النفط فإنها تدرك أن مصدر "القوة" و"الاحترام" هو "النفط". لهذا فإنه بدلا من الهروب من النفط، فإن الأفضل لهذه الدول هو احتضانه وتبنيه لتعزيز قوتها من جهة، وبناء اقتصاد معرفي من جهة أخرى. إن دول الخليج بشكل عام صغيرة، ولا يمكنها بأي شكل من الأشكال أن تكون "كل شيء" في آن واحد، ولا يمكنها أن تصبح رائدة في مجال ما بعد وجود عشرات الدول الرائدة في المجال نفسه، لهذا فإنه من المنطقي أن تتبنى الخيار الذي يميزها ويعزز من قوتها: النفط.
بناء على الحقائق المذكورة أعلاه يتضح أن الخيار الاستراتيجي لدول الخليج هو تصنيع تكنولوجيا الطاقة بشكل عام والنفط بشكل خاص، ثم تسويقها في شتى أنحاء العالم. إن تكنولوجيا الطاقة متقدمة ومعقدة للغاية، الأمر يضمن وجود اقتصاد معرفي، ويؤدي إلى تنويع مصادر الدخل، ويسهم في تحقيق تنمية مستدامة، لأن هذه التكنولوجيا مترابطة بكثير من الصناعات الأخرى التي تنمو مع نمو هذه الصناعة، ولأن هذه التكنولوجيا والصناعات المرتبطة بها ستسهم في بناء الموارد البشرية بشكل يجعلها مرغوبة في شتى أنحاء العالم.
إن تبني هذا الخيار الاستراتيجي يعني أن هناك دورا كبيرا لشركات النفط والجامعات ومراكز البحوث في المنطقة في تنويع مصادر الدخل عن طريق تطوير التكنولوجيا المرتبطة بالطاقة، التي قد يكون لها استخدامات أخرى غير مرتبطة بالطاقة، وتسويقها عالميا بحيث تصبح دول الخليج مصدرة للنفط والتكنولوجيا المتخصصة في هذا المجال.
باختصار، هناك ميزة نسبية لدول الخليج إذا ركزت على تطوير تكنولوجيا الطاقة، وهي الميزة نفسها التي اكتسبتها ولاية تكساس خلال الـ 100 سنة الماضية. ويكفي أن نذكر هنا أن معهد البترول الفرنسي اكتسب شهرة عالمية مع أنه ليس هناك نفط في فرنسا!
لهذا فإنه على دول الخليج أن تنظر إلى تكنولوجيا الطاقة "الوطنية" وخبراء الطاقة "الوطنيين" على أنهم سلع عالمية تسهم في تنويع مصادر الدخل، وهذه طريقة مجدية بسبب الميزة النسبية لدول الخليج، وأجدى من البدائل الأخرى المكلفة، التي قد تتطلب جلب تكنولوجيا جديدة وخبراء من الخارج. على دول الخليج أن تصدّر تكنولوجيا وخبراء الطاقة للخارج بدلا من استيرادهما. وقد لا يتفق البعض معي في هذا الرأي بسبب تقلب أسعار النفط والعداء للنفط في الدول المستهلكة، ولكن السؤال هو: هل سيكون الأمر كذلك لو كان الخبراء والمحللون والاستشاريون من الخليج؟
خلاصة القول: لماذا تهربون من النفط؟ عودوا إليه!