إعادة عمارة المسجد الحرام وفق نظرية كونية
شهد المسجد الحرام بمكة المكرمة تطوراً وتوسعاً أفقياً ورأسياً وخدمياً وتقنياً إبان العهد السعودي، مما أثلج صدور المؤمنين في شتى أصقاع الدنيا، وقد كان المسجد الحرام في وقت مبكر الهم الأكبر لولاة الأمر وهاجسهم في حلهم وترحالهم، وقد بذلوا في سبيل تطويره وعمارته من الجهد والمال الشيء الكبير وهو ليس بكثير على بيت الله الحرام، وقبلة المسلمين، ومهوى أفئدة الملايين من الموحدين .. فكتب الله الأجر للمحسنين من الأولين والآخرين وأجزل لهم المن والعطاء.
ولأن المسلمين في العالم أجمع يتزايدون بمعدل قد يصل إلى 2 في المائة .. ولأن وسائل السفر أصبحت أكثر أمناً وأسرع وأسهل من قبل .. ولأن الدور والنزل حول المسجد الحرام آخذة في الاتساع والتطور .. ولأن المسجد الحرام بات أرحب وأوسع من ذي قبل .. لذا فإن أعداد الزوار والمعتمرين والحجاج لبيت الله الحرام بات في ازدياد مطرد، وبشكل لافت لصانعي القرار السعودي، الأمر الذي جعل البيت الحرام يضيق بهم على سعته شيئاً فشيئاً. وقد أدركت الحكومة السعودية ذلك منذ وقت مبكر فسارعت في عهد المغفور له بإذن الله تعالى الملك سعود بن عبد العزيز بعمل أكبر وأضخم توسعة شهدها المسجد الحرام آنذاك وذلك عام 1375هـ توسعة أحاطت بالحرم إحاطة السوار بالمعصم مطوقة الأروقة العثمانية بثلاثة أدوار ضخمة أحدها تحت الأرض.
وبقيت مساحة المسجد الحرام منسجمة مع عدد زواره سنين عديدة .. حتى ضاق بهم المسجد الحرام مرة أخرى في موسمي الحج ورمضان فسارع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى إطلاق مشروع توسعة الحرم المكي عام 1409هـ التي تعد الأكبر مساحة والأكثر تقدماً في التقنيات المستخدمة في تاريخ الحرم المكي، وعلى الرغم من كل الجهود المبذولة والتوسعات الكبيرة إلا أن الطاقة الاستيعابية للحرم بعد مرور أقل من 20 سنة من أكبر توسعة شهدها تاريخ الحرم المكي أصبحت محدودة ولا تستوعب أعداد الحجاج والمعتمرين المتصاعد خاصة في رمضان وموسم الحج. وفي هذا العام 1429هـ سمع العالم الإسلامي بنية الحكومة السعودية إطلاق توسعة جديدة وكبيرة بصورة غير مسبوقة وذلك بعد مرور 20 سنة فقط من أكبر توسعة شهدها المسجد الحرام (صورة رقم 1).
#2#
ولقد تسنى لي الاطلاع على نماذج مصورة للتوسعة الجديدة التي هي الأكبر في تاريخ الحرم المكي (التي ستقع في الجهة الشمالية من المسجد الحرام) .. وعند التأمل في كل توسعات المسجد الحرام القديمة منها (التوسعة العثمانية عام 979هـ) والجديدة (توسعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله 1429هـ)، وبالنظر كذلك في النمط الهندسي المتبع في التخطيط للمسجد الحرام نجد أن الهندسة المعمارية العثمانية عمدت ابتداءً بإحاطة صحن الكعبة الدائري برواق حجري مستطيل ومتكسر الأضلاع .. وأحسب أن المخططين والمهندسين المعماريين العثمانيين آنذاك لم يوفقوا في استخدام هذا النمط الهندسي، بل ولا ينسجم أو يتناغم مع الطبيعة الدائرية للطائفين والمصلين المحلقين حول الكعبة المشرفة؛ وعلى أثر هذا الخطأ الهندسي القديم ـ بحسب رأيي ـ انسحبت حوله التوسعات التالية والجديدة .. هذا أولاً.
وثانياً فإن التوسعات الأخيرة والمحيطة بالبناء العثماني جاءت وفق نمط معماري إسلامي وهو السرادق ذو الشكل المربع والمتكرر والمتناظر ويفصل بينها ممرات تحددها مئات الأعمدة الضخمة حتى أصبحت الصفوف غير متوازية ولا متصلة ولا حتى متناظرة بسبب نظام السرادق والأعمدة التي تصلح وتنسجم مع مسجد له قبلة واحدة، ولا تصلح أو تتماشى مع النمط الدائري للمسجد الحرام .. كما أنها استهلكت كثيرا من المساحة.
هذه المشكلة المركبة في الشكل الهندسي العام للمسجد الحرام وطريقة البناء وفق نمط السرادق وما نتج وينتج عنهما من سلبيات متراكمة دفعتني إلى المشاركة في الرأي والتفكير، والحديث عن فكرة ونظرية هندسية تنقل المسجد الحرام للألفية القادمة بإذن الله تعالى.
ولقد جاءت هذه الفكرة في توسعة وتطوير المسجد الحرام بناء على حيثيات مهمة منها:
يشكل المسلمون نحو 20 في المائة من سكان العالم ويقدر عددهم بـ 1.5 مليار مسلم وأعدادهم بازدياد.
نسبة الزيادة في المسلمين تصل إلى 2 في المائة سنوياً وتعد الأعلى عالمياً.
الطاقة القصوى للمسجد الحرام والمشاعر المقدسة تبلغ نحو 2 مليوني حاج! وبحساب بسيط فإننا نحتاج إلى 250 سنة حتى يتمكن 500 مليون مسلم فقط من الحج وفقاً للطاقة الاستيعابية الحالية. (على افتراض أن مليار مسلم تحت سن البلوغ أو غير قادرين على الحج).
ووفقاً لأعداد المسلمين في العالم الذين يجب عليهم الحج يفترض أن تكون الطاقة الدنيا للمسجد الحرام والمشاعر المقدسة سبعة ملايين حاج حتى يتمكن 500 مليون مسلم من تأدية فرائضهم وذلك خلال فترة زمنية لا تتجاوز 70 سنة.
إذا استمرت طاقة المسجد الحرام والمشاعر المقدسة مليوني حاج فقط، فيعني بالضرورة أن نحو 360 مليون مسلم قادر على الحج يموتون قبل أن تتاح لهم تأدية الركن الخامس!!
وفقاً للنمط القائم في آخر ثلاث توسعات كبرى للمسجد الحرام قد نضطر إلى توسعات تاريخية كل 27 سنة وهذا فيه هدر للمال والجهد وإرباك للمعتمرين والحجاج (صورة رقم 2).
#3#
ونتيجة لتوالي التوسعات التاريخية سنضطر لهدم الأبراج التجارية والسكنية التي بنيت أو تبنى الآن والمحيطة بالمسجد الحرام قبل عام 1530هـ (صورة رقم 3)
#4#
التوسعات الجديدة عبارة عن مبان ضخمة ومكلفة ملحقة وملصقة بالحرم بشكل غير منتظم هندسياً! وذلك نظراً لطبيعة الشكل الهندسي العثماني القديم وكذا طوبغرافية المكان.
إذا استمرت التوسعات على النمط القديم فإنه وبعد نحو 100 سنة سيكون وضع المسجد الحرام عبارة عن مبان متلاصقة مع بعضها بعضا والمآذن والأبواب الرئيسة ستصبح في وسط الحرم بدلاً من أطرافه!
الآلية المعتمدة حالياً في توسعات الحرم مكلفة جداً مالياً وزمنياً.
نمط البناء المعمول به وهو السرادق بأعمدتها الكثيرة والتي تحجب رؤية القبلة لا تتناغم مع طبيعة الحرم الدورانية.
وبناء على الحيثيات السابقة فإنني أرفع مقترحاً لمقام خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أعزه الله بالإسلام لتبني مشروع وتوسعة الثلاثة قرون .. التي تقضي بتقويض المسجد الحرام ومن ثَم بناؤه وفق النظرية الدورانية الكروية التي خلق الله سبحانه وتعالى الكون عليها .. حتى تكون توسعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله البناء الأول والأكبر الذي سيصمد حتى 250 سنة مقبلة بإذن الله تعالى دونما حاجة لتوسعة جديدة والله أعلم.
ومن هنا فإنني أدعو الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين ومعهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والجهات المعنية بإعادة النظر في منهجية وآلية توسعة وتطوير المسجد الحرام وفق النمط التقليدي والأخذ بنظرية البناء الدائري (صورة رقم 4).
#5#
النظرية الدورانية والمسجد الحرام الدائري
تقترح النظرية الدورانية أن يقوض البناء الحالي للمسجد الحرام تدريجياً وفق آلية دائرية مدروسة تقضي بتقسيم المسجد الحرام إلى عشرة مثلثات (أنظر صورة رقم 5)
#6#
بحيث يقوض مثلث رقم واحد فقط ويتم بناؤه وفق النظرية الدورانية المقترحة فإذا تم البناء فتح للمصلين وبدئ بالمثلث الثاني وهكذا دواليك حتى يكتمل البناء .. أو أن يتم البناء وفقاً للنظرية الدورانية ولكن بشكل عكسي أي تبنى الأطراف الخارجية للمسجد زحفاً إلى الداخل حتى تلتصق بالبناء القديم للمسجد فإذا اكتملت فتحت للمصلين، ثم يبدأ بتقويض البناء القديم للمسجد اعتماداً على طريقة المثلثات السالفة ثم تربط المرحلة الأولى (الخارجية) بالثانية (الداخلية) .. وهذا من أجل أن يتم بناء المسجد الحرام من جديد وفقاً لهندسة كونية .. إذ إن كل الأجرام السماوية دائرية أو بيضاوية بل وحتى الكون بني وفق هندسة دائرية كروية، وهذا ينسجم مع ما جاء في الشرع والعقل حول الكون، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تقضي النظرية الدورانية أيضاً أن تبتعد الأبراج السكنية عن مركز الدائرة (الكعبة المشرفة) على الأقل 500 متر لإتاحة الفرصة لتوسعات جديدة قد تقع بعد 250 سنة (صورة رقم 6 و 7).
#7#
#8#
ومن أجل تحقيق عدة أهداف استراتيجية كبرى أقترح إعادة بناء المسجد الحرام من جديد وفقاً لشكل هندسي دائري ينسجم مع طبيعة ووظيفة المسجد الحرام .. وقد يظن البعض أن تقويض المسجد الحرام وإعادة بنائه من جديد ضرب من الخيال وسفاهة! .. ويا قوم ليس بي سفاهة ولكني أذكركم أن المسعى أزيل بالكامل وهاهو يبنى من جديد وكذا الكعبة من قبله وكان القرار عين الصواب.
مميزات البناء الدائري الجديد:
1- ارتفاع الطاقة الاستيعابية للمسجد الحرام الدائري بشكل يفوق النمط التقليدي بمراحل.
2- كل الصفوف مهما تأخرت تستطيع أن تشاهد الكعبة المشرفة حتى على بعد 500 متر.
3- الدقة في توجيه كل الصفوف إلى القبلة.
4- التقليل من أعداد الأعمدة بنسبة كبيرة ومن ثم توفير مساحة أوفر للمصلين.
5- سهولة توسيع الحرم مستقبلاً بطريقة وآلية غاية في البساطة والسرعة دون المساس بشخصية المسجد الحرام المعمارية الدورانية.
6- سهولة ترقيم الصفوف والكتابة عليها، مثلاً الصف المحيط بالكعبة رقمه واحد والصف الأخير قد يكون رقمه 1000 وهكذا.
7- تقسيم الحرم (الدائري) إلى أربعة أقسام رئيسة وفقاً للاتجاهات الجغرافية الأصلية (شمال، جنوب، شرق، غرب) عبر حلقات مذهبة وجميلة تطوق وسط الأعمدة وتتمايز كل جهة جغرافية عن الأخرى من خلال ألوان خاصة لكل جهة.
ترقم الأعمدة أيضاً على نفس الحلقات المذهبة المطوقة للأعمدة.
والجمع بين الميزات الخامسة والسادسة والسابعة تمنحنا أبعاداً ثلاثية وتعطينا إحداثيات جغرافية لتحديد المواقع بدقة في المسجد الحرام والتي ستسهل لإدارة الحرم إدارتها، وللمصلين حركاتهم داخل المسجد الحرام أيضاً.
سهولة إدارة المسجد الحرام أمنياً وإدارياً وخدماتياً.
التوسعة المقترحة تتصدى لـ 250 سنة دون الحاجة لتوسعة جديدة والله أعلم.
مقام إبراهيم عليه السلام
وتتضمن النظرية الدورانية لبناء المسجد الحرام أيضاً معالجة مشكلة حركة وانسيابية الطائفين حول الكعبة بسبب موقع مقام إبراهيم عليه السلام وقربه من الكعبة وتوسطه من مسار الطائفين .. لذا أقترح أن يصمم مقام إبراهيم وفق فكرة عصرية جريئة ومفيدة وذلك أن يكون المقام متحركاً .. أي يبنى فوق قاعدة رخامية متحركة (على غرار منبر الجمعة) يتزحزح بعيداً عن الكعبة كلما زاد عدد الطائفين ليعطي انسيابية ومرونة وليسمح بتدفق المزيد من الطائفين كما تسمح فكرة القاعدة المتحركة بترجيع المقام بمكانه الأصلي في غير أوقات المواسم.
#9#
#10#
هذا ما عنّ في ذهني اتجاه توسعة المسجد الحرام اختصرته بطريقة أرجو ألا تكون مخلة .. وأحسب أن ما ورد فيه من أفكار جريئة وغريبة ما يجعل الكثير يشرق بها! وأتمنى ألا يحول ذلك دون الأخذ بالفكرة ودراستها من قبل الجهات ذات العلاقة بما ينفع فيه البلاد والعباد.
*عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم ـ السعودية