وقف تنفيذ الحكم بمنع تصدير الغاز المصري لإسرائيل ومبدأ السيادة
أصدرت المحكمة الإدارية العليا في مجلس الدولة المصري حكما يوم الإثنين 2/2/2009، يقضي باستمرار تصدير الغاز الطبيعي المصري لإسرائيل ووقف تنفيذ الحكم الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري (محكمة أول درجة) بتاريخ 18/11/2008، القاضي بمنع تصدير الغاز لإسرائيل، وطبقا لما جاء في بعض وسائل الإعلام فإن المحكمة الإدارية العليا رأت أن قرار الحكومة المصرية الذي صدر في أيلول (سبتمبر) عام 2000، بتصدير الغاز الطبيعي لدول شرق البحر الأبيض المتوسط ومنها إسرائيل لا يخضع إلى رقابة القضاء على أساس أن هذا القرار أصدرته الحكومة بوصفها سلطة حكم في نطاق وظيفتها السياسية مما يدخل في نطاق أعمال السيادة التي استقر القضاء الدستوري والإداري على استبعادها من رقابته وإخراجها من نطاق اختصاصه الولائي، الأمر الذي يرجح معه إلغاء الحكم المطعون فيه. وقد قضت المحكمة الإدارية العليا بوقف تنفيذ الحكم المذكور بعد أن توافر بشأنه ركن الجدية وركن الاستعجال لما يترتب على تنفيذ الحكم من المساس بالتزامات الدولة وتعهداتها مع الدول الأخرى. كما قررت المحكمة الإدارية العليا إحالة ملف الدعوى إلى هيئة مفوضي الدولة،وهي هيئة استشارية تابعة للمحكمة لإعداد تقرير قانوني قبل استئناف نظر القضية في 16/3/2009.
جدير بالذكر أن الحكومة المصرية لم تنفذ حكم محكمة القضاء الإداري القاضي بمنع تصدير الغاز إلى إسرائيل، الأمر الذي دعا السفير المصري السابق إبراهيم يسري، مقيم الدعوى، إلى إقامة دعوى أخرى للمطالبة بإلزام الحكومة بتنفيذ الحكم بأسرع وقت ممكن، وقضت محكمة القضاء الإداري يوم الثلاثاء 6/1/2009، باستمرار تنفيذ الحكم بالرغم من استئنافه من قبل الحكومة وألزمت الحكومة بتنفيذه، ولكن الحكومة لم تنفذ هذا الحكم أيضا، وإزاء العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة وما ترتب عليه من جرائم حرب ومجازر بشعة فقد تزايدت في مصر المطالبات الشعبية بوقف تصدير الغاز لإسرائيل. وعبر عن ذلك الكاتب الصحافي المصري سلامة أحمد سلامة في مقاله المنشور في جريدة "الأهرام" بتاريخ 13/1/2009 قائلا (لسوء حظ الحكومة أن يتصادف حكم المحكمة مع ارتفاع وتيرة العنف الإسرائيلي الوحشي على غزة، وأن يتساءل الرأي العام عن الأسباب التي تدعو مصر إلى الاستمرار في تصدير الغاز لإسرائيل، تنير به مدنها وتشعل به مصانعها وتضيء به مستشفياتها، بينما تدك القاذفات والقنابل الإسرائيلية بيوت الفلسطينيين وتقطع الكهرباء عن منازلهم ومستشفياتهم وتقتل الأطفال)".
لذلك فقد صدم حكم المحكمة الإدارية العليا المعارضة المصرية وأصابها بالذهول وقال عضو مجلس الشعب المصري السابق المحامي أنور عصمت السادات، وهو ابن شقيق الرئيس المصري السابق أنور السادات إن (الحكم أصابنا بصدمة ودهشة لأنه لا أحد يختلف على ضرورة وقف نزف موارد الدولة، وإن حزن الشعب شديد على تصدير الغاز لإسرائيل في ظل هذه المجازر التي تنفذها في غزة).
ومن الطبيعي أن إسرائيل تلقت خبر صدور هذا الحكم بالحبور والسرور وقد أبدت وسائل الإعلام الإسرائيلية اهتماما وارتياحا لهذا الحكم، كما عبرت وزارة البنى التحتية الإسرائيلية عن ارتياحها لصدور هذا الحكم وقالت في بيان صادر عنها: (ترى دولة إسرائيل أن صفقة الغاز مع مصر تنطوي على أهمية استراتيجية هائلة، وتعتبرها لا غنى عنها لإنعاش قطاع الطاقة الإسرائيلي، وتثق الوزارة بأن الاتفاق السياسي بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية سيتواصل طبقا لبنود مذكرة التفاهم الموقعة بين الدولتين عام 2005، ومن ثم لن تتأثر العقود التجارية التي وقعتها شركة الغاز المصرية مع عملائها في إسرائيل).
ويبدو لي أن حكم المحكمة الإدارية العليا هو من قبيل الأحكام التمهيدية والمؤقتة لأنه أوقف تنفيذ الحكم المطعون فيه من قبل الحكومة ولم ينقضه وأجلت المحكمة العليا النظر في موضوع القضية إلى جلسة يوم16/3/2009، حيث ستقوم ببحثه في ضوء الرأي القانوني الذي ستعده هيئة مفوضي الدولة في هذا الشأن.
وجدير بالذكر هنا أن الحكم الابتدائي الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري والذي أمر بوقف تصدير الغاز الطبيعي لإسرائيل قد قام على أسس عديدة في مقدمتها أن مجلس الشعب المصري لم يناقش ولم يقر اتفاقية تصديره إلى إسرائيل، بينما تركز دفاع الحكومة المصرية في أنها لم توقع مع إسرائيل على اتفاقية بشأن بيع الغاز الطبيعي وإنما وقعت معها سنة 2005، على مذكرة تفاهم بشأن تسيير أنابيب الغاز الطبيعي بين الدولتين وأن تصدير وبيع الغاز إلى لإسرائيل يتم بموجب عقود أبرمت بين شركة تابعة للقطاع الخاص هي شركة غاز شرق البحر الأبيض المتوسط مع شركة مملوكة للدولة في إسرائيل وبالتالي لا ينطبق على هذا الاتفاق القانون الذي يلزم الحكومة بعرض الاتفاقيات مع الدول الأجنبية على مجلس الشعب.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن شركة غاز شرق البحر الأبيض المتوسط هي – كما أفادت بعض المصادر الإعلامية – شركة مصرية مملوكة لشركاء مصريين وأجانب، حيث يملك رجل الأعمال المصري حسين سالم 28 في المائة من رأسمالها وتملك شركة الغاز المصرية 10 في المائة وتستحوذ شركة الغاز التايلاندية PTT على 25 في المائة، ويملك رجل الأعمال اليهودي الأمريكي سام 12 في المائة، ويملك رجل الأعمال الإسرائيلي يوسي ميمان 25 في المائة.
ولما كانت المحكمة الإدارية العليا قد استندت إلى مبدأ أعمال السيادة في حكمها بوقف تنفيذ الحكم الابتدائي المطعون فيه من قبل الحكومة، أجد من المناسب أن أوضح هنا مفهوم هذا المبدأ لأنه مبدأ مهم ومستقر عليه في معظم قوانين وأنظمة القضاء في دول العالم ومنها نظام ديوان المظالم السعودي، حيث نصت المادة 14 منه بأنه (لا يجوز لمحاكم ديوان المظالم النظر في الدعاوى المتعلقة بأعمال السيادة).
وقد عرف بعض فقهاء القانون الإداري أعمال السيادة بأنها (الأعمال التي تصدر عن السلطة التنفيذية باعتبارها السلطة العليا في البلاد أي حكومة تمثل الدولة في مجال القانون العام الخارجي أو الداخلي وليس باعتبارها جهة إدارة).
وأوضح بعض الفقهاء أن أعمال السيادة (تشمل كل ما يتعلق بالصلات السياسية مع الدول الأجنبية وحالتي إعلان الحرب وإبرام السلم وضم أراض لأملاك الدولة أو التنازل عنها والتحالف، وكل ما يتعلق بتنظيم القوات البرية والبحرية والجوية وما إلى ذلك مما تتفق طبيعته مع طبيعة هذه الأعمال).
وقد قضت محكمة القضاء الإداري بتاريخ 21/4/1948، بأن أعمال السيادة هي الأعمال التي تتصل بالسياسة العليا للدولة والإجراءات التي تتخذها الحكومة
بما لها من السلطة العليا للمحافظة على سيادة الدولة وكيانها في الداخل أو الخارج.
ثم عرفت محكمة القضاء الإداري المصري أعمال السيادة في حكم أصدرته بتاريخ 26/6/1951م بأنها (الأعمال التي تصدر من الحكومة باعتبارها سلطة حكم لا سلطة إدارة, فتباشرها بمقتضى هذه السلطة العليا لتنظيم علاقاتها بالسلطات العامة الأخرى داخلية كانت أو خارجية أو تأخذها اضطرارا للمحافظة على كيان الدولة في الداخل أو للذود عن سياستها في الخارج ومن ثم يغلب فيها أن تكون تدابير تتخذ في النطاق الداخلي أو في النطاق الخارجي, إما لتنظيم علاقات الحكومة بالسلطات العامة الداخلية أو الخارجية في حالتي الهدوء والسلام, وإما لدفع الأذى والشر عن الدولة في الداخل أو في الخارج في حالتي الاضطراب والحرب).
وفي حكم صادر بتاريخ 22/12/1981م عرفت محكمة القضاء الإداري المصري أعمال السيادة مرة أخرى فقالت ما يلي:-
(المعيار السائد فقهاً وقضاء في التمييز بين أعمال السيادة وأعمال الإدارة وهو معيار طبيعة العمل المتخذ، وبحسب هذا المعيار فإن أعمال السيادة هي الأعمال التي تصدر من السلطة التنفيذية باعتبارها سلطة حكم لا سلطة إدارة فإذا كانت صادرة منها باعتبارها حكومة كانت أعمال سيادة, وما إذا كانت صادرة منها باعتبارها إدارة كانت أعمالاً إدارية).
ويرجع فقهاء القانون أسانيد حصانة أعمال السيادة وعدم خضوعها لرقابة القضاء إلى الاعتبارات الآتية:-
1- أن هذه الأعمال تصدرها الحكومة بمقتضى مهمتها السياسية مما يوجب منطقيا ألا تراقبها في هذا الشأن إلا سلطة سياسية هي السلطة التشريعية دون المحاكم.
2- سلامة الدولة فوق القانون لأن إجراءات الدولة في هذا الصدد يكون الهدف منها حمايتها وسلامتها.
3- تستند أعمال السيادة إلى اعتبارات عليا يضرها أن تلوكها المخاصمات القضائية وقد تتصل باعتبارات خفية ليس من المصلحة العامة أو من الحكمة مناقشتها بواسطة المحاكم.
4- ليس للمحاكم رقابة على أعمال السيادة إنما لها أن تتبين أن التدابير المتخذة تدخل ضمن أعمال السيادة من عدمه.
في ضوء ما تقدم وحيث إن الحكومة المصرية استندت في دفاعها في هذه القضية إلى أن عقد تصدير وبيع الغاز لإسرائيل ليس اتفاقاً بين الحكومة المصرية والحكومة الإسرائيلية كما أنه ليس اتفاقاً بين الحكومة المصرية وشركة وإنما هو اتفاق مبرم بين شركات مستقلة, فإن السؤال الذي يفرض نفسه كيف يسوغ في هذه الحالة إدخال هذا الاتفاق ضمن أعمال السيادة وأن من شأن الإخلال به المساس بالتزامات الدولة المصرية وتعهداتها مع الدول الأخرى؟!
لعلنا نجد إجابة عن هذا السؤال عندما تتصدى المحكمة الإدارية العليا لموضوع القضية في جلسة 16/3/2009م وتصدر حكمها بعد أن تكون قد اطلعت على الرأي القانوني الذي طلبت من هيئة مفوضي الدولة أن تقدمه لها حول الطعن في موضوع الحكم الصادر من المحكمة أول درجة.