الملك عبد الله والتغيير المتناغم

لم يكن السبت الماضي يوماً عادياً في تاريخ مسيرة الإصلاح الإداري في المملكة العربية السعودية، إذ شهد ذلك اليوم صدور حزمة من القرارات الملكية تقضي بتغيير واسع في العديد من وزارات الدولة ومؤسساتها وعلى رأسها القضاء, في خطوة يرى الكثيرون أنها ستؤسس لمرحلة جديدة في الإدارة العامة والقضاء في المملكة لعقود قادمة بإذن الله. واللافت للنظر في تلك القرارات التناغم القوي فيما بينها على الرغم مما قد يبدو للبعض من مسارات مستقلة لتلك الخطوة التاريخية توحيها طبيعة العمل المتميزة لكل قطاع من القطاعات التي شملتها الأوامر، إذ شمل التغيير، إلى جانب القضاء، هيئة كبار العلماء، مجلس الشورى، التعليم العام، الصحة، الإعلام، المصرف المركزي، وهيئة حقوق الإنسان.
ذلك الاختيار للقطاعات التي شملها التغيير، سواء في القيادات أو في التنظيم، في هذا الوقت بالذات يعكس حكمة مشهوداً بها لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ووعياً لما يمكن أن تساهم به تلك القطاعات في تكوين ثروة حقيقية مستدامة للأجيال القادمة فيما لو أحسنت إدارتها. إذ لم تعد مكونات ثروات الأمم تقتصر على ما لديها من أرصدة نقدية، مصانع، أو ثروات طبيعية كالأنهار، المعادن، والبترول وغيرها فحسب، بل هناك عناصر أخرى بات لها وزن أكبر بين تلك المكونات ألا وهي الإنسان وسيادة القانون، وهو ما يطلق عليه في الاقتصاد "الثروة غير الملموسة Intangible Wealth. تلك الحقيقة ظلت لسنوات طويلة تفتقر إلى التوثيق العلمي الكمي إلى أن توصل في الآونة الأخيرة باحثون في البنك الدولي إلى قياس حجم الثروة غير الملموسة في عينة واسعة من المجتمعات حول العالم شملت دولاً غنية ومتوسطة وأخرى فقيرة. ولم تكن نتائج البحث مفاجئة إذ ثبت أن الثروة غير الملموسة تشكل 80 في المائة من مجموع الثروة في الدول الغنية بينما تنخفض تلك النسبة إلى 60 في المائة فقط في الدول الفقيرة. وتفسير ذلك الفرق مرجعه التباين في مستوى التعليم وكفاية المؤسسات المساندة للنشاط الاقتصادي وعلى رأسها القضاء بمفهومه العريض.
في ذلك الإطار يمكن للمرء قراءة الترابط في رؤى ومنهجية القرارات الملكية, ما يضعها في طبقة غير تلك التقليدية ذات الأبعاد المحدودة أو قصيرة الأجل. فتنظيم القضاء مثلاً وتطوير آلياته بما يتناسب مع النهضة الاقتصادية والاجتماعية التي تنعم بها المملكة, وما خصصه له خادم الحرمين الشريفين من مبالغ سخية سيدعمان جهود الدولة في توفير بيئة تشجع على الاستثمارات وبناء المشروعات وما تفضي إليه من فرص عمل كريمة لأبناء الوطن. وهنا يأتي دور مؤسسة التعليم في تهيئة ذلك المواطن القادر على الإفادة من تلك الفرص للمنافسة والإنتاج في عالم تهاوت فيه منذ سنوات الحواجز والحدود، ومن ثم كان لا بد من التغيير والتطوير في تلك المؤسسة. وكذا الحال بالنسبة للخدمات الصحية ودورها في الحفاظ على سلامة الفرد وقدرته على العطاء تحت ظروف تتطلب جسماً سليماً إلى جانب العقل السليم، فهي أيضاً كان لا بد أن يشملها التغيير. و القول نفسه يمكن أن ينسحب على الملفات الأخرى ذات الصلة بالثقافة والإعلام، حقوق الإنسان، وكذا إدارة المال العام الذي لا بد له أن يواكب المرحلة القادمة بالمزيد من الشفافية والإفصاح.
أما مجلس الشورى فسيبقى، كعهدنا به، ساحة للحوار البناء والطرح المنضبط، على أن التطلعات أصبحت ملحة لتطوير آليات العمل في لجانه وجلساته لتوسعة مشاركة المواطنين في ذلك الحوار، وكنت قد عرضت بعضاً من تلك الآليات المقترحة في مقال نشرته "الاقتصادية" بتاريخ 2/1/1430هـ.
في خضم تلك التغييرات ومشاغل الناس، قد ينسى البعض المعيار الأسمى في الأداء ألا وهو تقوى الله سبحانه وتعالى، لذا لا بد لنا بين الحين والآخر أن نذكر أنفسنا بقول المولى العلي العظيم "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي