(كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم...!)
عنوان المقال جزء من آية سورة الحشر, وقد ختمها الله تعالى بقوله: (... واتقوا الله إن الله شديد العقاب), وكأن بقاء المال دولة بين الأغنياء, واستئثارهم به دون الفقراء, مؤذن بعقوبة الدنيا, أو الآخرة - عياذاً بالله - وقد جاء الشارع الحكيم بتشريع العديد من الأحكام في باب الزكاة, والغنائم, والمعاملات؛ لتعويد الناس وحملهم على إدارة المال في المجتمع لينتفع به الأغنياء والفقراء على حد سواء, ومن الأمثلة على ذلك أيضاً, مما له علاقة بواقعنا المعاصر:
أنه جاءت نصوص كثيرة تمنع بيع الطعام قبل قبضه, وقاس عليه كثير من أهل العلم ما سوى الطعام: من السلع, كبيع السيارات, والأجهزة الكهربائية, والأدوات المنزلية.., فلا تباع حتى تقبض, وتنقل من مكانها (وقبض كل شيء بحسبه), كما جاء النهي عن ذلك في حديث ابنِ عُمَرَ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «من ابْتَاعَ طَعَامًا فلا يَبِعْهُ حتى يَسْتَوْفِيَهُ» أي: يقبضه, وفي لفظ قال ابن عُمَرَ ـ رضي الله عنهما ـ: «كنا في زَمَانِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَبْتَاعُ (أي: نشتري) الطَّعَامَ فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا من يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ من الْمَكَانِ الذي ابْتَعْنَاهُ فيه إلى مَكَانٍ سِوَاهُ قبل أَنْ نَبِيعَهُ» رواه الشيخان، وفي حديث أبي هُرَيْرَةَ، ـ رضي الله عنه ـ، أَنَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «مَن اشْتَرَى طَعَامًا فلا يَبِعْهُ حتى يَكْتَالَهُ» وفي رواية أن أبا هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، أنكر بيعَ طعامٍ لم ينقل من محله, وقال لوالي المدينة مَرْوَانَ بنِ الحكم: «أَحْلَلْتَ بَيْعَ الرِّبَا؟ فقال مَرْوَانُ: ما فَعَلْتُ! فقال أبو هُرَيْرَةَ: أَحْلَلْتَ بَيْعَ الصِّكَاكِ؟ (هي وثيقة مثبت فيها الرزق المستحق من بيت المال, فيبيعها صاحبها قبل قبض ما فيها)، وقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بَيْعِ الطَّعَامِ حتى يُسْتَوْفَى، قال: فَخَطَبَ مَرْوَانُ الناس, فَنَهَى عن بَيْعِهَا، قال الراوي: فَنَظَرْتُ إلى حَرَسٍ يَأْخُذُونَهَا من أَيْدِي الناس» رواه مسلم. وهنا نلحظ الاستجابة الفورية للسلطة التنفيذية لما تمليه السلطة التشريعية من التدخل في السوق (استثناء) لمنع المتعاملين فيه من التورط في هذه المعاملات المحرمة, وحملهم على الطريقة الصحيحة في البيوع.
ولهذا لم يكن غريباً أن ينكر الصحابة، رضي الله عنهم، على من وقع في هذه الطريقة من البيع، كما أنكر أبو هريرة، رضي الله عنه، على مروان بن الحكم, وكما أنكر زيد بن ثابت على عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما, كما روى ابن عُمَرَ قال: «قَدِمَ رَجُلٌ من أَهْلِ الشَّامِ بِزَيْتٍ فَسَاوَمْتُهُ فِيمَنْ سَاوَمَهُ مِنَ التُّجَارِ حتى ابْتَعْتُهُ منه, فَقَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَبَّحَنِى فيه حتى أرضاني، قال: فَأَخَذْتُ بيده لأَضْرِبَ عليها (أي: لإتمام صفقة البيع)، فَأَخَذَ رَجُلٌ بذراعي من خلفي فَالْتَفَتُّ إليه, فإذا زَيْدُ بن ثَابِتٍ! فقال: لاَ تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْتَهُ, حتى تَحُوزَهُ إلى رَحْلِكَ, فإن رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهى عن ذلك, فَأَمْسَكْتُ يدي» رواه أحمد, وصححه ابن حبان. وهنا نلحظ سرعة استجابة ابن عمر حين بلغه الحديث, وكف يده مباشرة حذراً من الوقوع في المحظور..!
بل جاء من التشديد في النهي عن بيع المبيع قبل قبضه, أنهم كانوا يعاتبون, وأحياناً يعاقبون من يخالف ذلك؛ كما في حديث ابن عُمَرَ: «أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ على عَهْدِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اشْتَرَوْا طَعَامًا جِزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ في مَكَانِهِ حتى يُحَوِّلُوهُ» رواه الشيخان.
وهنا يثور تساؤل: لماذا وقف الشارع هذا الموقف الصارم من بيع المبيع قبل قبضه؟ وأعتقد أن تأمل النص الشرعي واستحضار واقعنا المعاصر كافٍ في استلهام المقصد الشرعي من ذلك النهي, إذ إن كثيراً من مشاكل البيوع المعاصرة تنشأ من البيوع التي لا تتحرك فيها السلع, وإنما تتحرك فيها عقود بيوع وشراء صورية, من واقع أوراق, أو فروق أسعار, والسلع تظل راكدة مكانها لا تتزحزح, سواء كانت أسهماً, أو سيارات, أو معادن, أو مواد غذائية, فماذا نتج عن ذلك..؟
نتج عنه عدة أمور:
1. في الأصناف الربوية كالنقود الورقية, أصبحت تدار بين المقرض والمقترض وبينهما سلع مختلقة, لا ترى صورها وأشكالها إلا في المطويات التسويقية, وفي البراويز المعلقة في جدران البنوك...!
2. المال أصبح دولة بين الأغنياء, فاستأثر به التجار دون الفقراء, لأنه أصبح يتحرك ويزيد داخل أرصدتهم, دون أن يراه أحد إلا العميل الذي ركبه الدين, وتربع على رصيده, فلم يستفد من هذا التعاقد الصوري إلا التاجر باسم البيع والشراء للسلعة المختفية عن الأنظار, وبهذا تُـقَنَّن إدارة المال داخل رصيد التاجر عبر بيع السلع التي لم يقبضها التاجر, ولم يرها العميل, في مخالفةٍ واضحة لنصوص النهي عن الحيل, وتكريسٍ فاضح للنظرية المخالفة لقوله تعالى: (..كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم...).
3. باختفاء السلع, وعدم قبضها, وبظهور النقد, أطل التضخم برأسه البغيض على دول كثيرة, وذلك قبيل الأزمة المالية, ولا سيما حين زاد حجم المضاربات في أسواق النفط وأسواق السلع والمعادن على فروق الأسعار, فغلت المنتجات المرتبطة بأسعار البورصات الدولية, وضعفت القيمة الشرائية للكثير من النقود بشكل غير مسبوق, وأعلن الكثير من المسؤولين - وعلى رأسهم بعض وزراء منظمة "أوبك" - أن المضاربات كانت وراء التضخم, وفقاعة الأسعار, حيث كانت المضاربات على أشدها في تلك الأسواق, دون أن يكون هناك تحرك حقيقي للسلع, ما مهَّد بدوره لوقوع الأزمة.
4. بمنع المشتري بيع السلعة قبل قبضها, تتحرك السلع, وينشط السوق, وتتحقق صورة من صور ما يسمى في اصطلاحنا المعاصر"الأمن الغذائي"؛ حيث يطمئن أهل السوق بوجود السلع, ووفرتها, وتداولها, فتهدأ الأسعار, وتتحرك على سجيتها, ولهذا كان من أبرز أسباب ارتفاع الأسعار ما يسمى الاحتكار, الذي تخبَّأ السلع لأجله؛ لغرض إشعار المستهلكين أن السلعة نادرة في السوق, فيدفع فيها أكثر من قيمتها الحقيقية.
5. بحمل الشارع الحكيم جميع المشترين على قبض السلعة, ونقلها من مكانها قبل بيعها, يستفيد جميع أهل السوق, حيث يستفيد الحمال الذي يحملها من مكانها, وتستفيد سيارات النقل بتحصيل أجرة نقل البضائع من محلها إلى مخازن المشتري, ويستفيد أرباب المخازن والمستودعات بتأجيرها..., وهكذا في سلسلة طويلة, يمكن استحضارها بتأمل ما يؤول إليه الحال عند قبض السلع, وهذا يدل دلالة واضحة على حكمة ربنا الحكيم الخبير الذي شرع للناس ما ينفعهم, ونأى بهم عما يضرهم, ويلحق الأذى بهم, فهل آن الأوان كي نتعرف على مقاصد شريعتنا في المعاملات؛ لنكشف عما ما وراء الأحكام الشرعية من حكم وأسرار, توقظ قلوبنا لحكمة علام الغيوب سبحانه...؟