ماذا بعد مؤتمر قمة العشرين في لندن؟
مؤتمر قمة العشرين في لندن ومؤتمر واشنطن الذي قبله (نوفمبر 2008) رسما الملامح العامة لحدود ما يمكن أن تتفق عليه هذه الدول في المدى المنظور كإطار للعمل المشترك. وهو إطار أبعد ما يكون عن أن يرسم أو يؤسس لنظام نقدي أو اقتصادي دولي جديد لا من ناحية المبادئ العامة ولا من ناحية الآليات، باستثناء إلغاء سرية البنوك وتشديد الخناق على الملاذات الضريبية، إلا أن كثيرا من التفاصيل تنتظر الاتفاق لتفعيل هذه القرارات.
على الرغم من اللهجة التصالحية للرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما قبل المؤتمر إلا أن هذه اللهجة تعكس الضعف النسبي للولايات المتحدة الأمريكية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. لا بل يمكن القول إن هذه اللهجة يمكن أن تعكس محاولة غير مباشرة للتملص من الدخول في حوار نحو إصلاحات عميقة وجذرية في النظام الاقتصادي الدولي وذلك بقوله "إنه جاء مستمعاً وليس محاضراً حول ما يجب عمله" وهو بذلك يلقي الكرة في ملعب الآخرين لاختبار أقصى ما يمكن أن يتخيلوه أو يطالبوا به.
لقد نجحت الولايات المتحدة في ألا يناقش المؤتمر طلب الصين البحث عن بديل للدولار في الاقتصاد العالمي. و كان رئيس الوزراء الصيني قد عبر عن قلقه بشأن سلامة أصول بلاده المالية المستثمرة في الأوراق المالية الأمريكية، وطالب أمريكا بضمان سلامة تلك الأصول. ومع ذلك فقد أكدت نائبة رئيس المصرف المركزي الصيني هو تشياوليان عزم الصين الاستمرار في شراء سندات الخزينة الأمريكية، إلا أنها نبهت إلى أن الصين "ستواصل إعطاء أهمية كبيرة لتقلبات قيمة موجوداتها". وتحوز الصين على أكبر احتياطات أجنبية في العالم تبلغ قريباً من تريليوني دولار، كما أنها أكبر مقرض لأمريكا بمبلغ 740 مليار دولار، من جملة ديون أمريكا البالغة 10.9 تريليون دولار. ويبدو أن المؤتمرين لم يروا في الدولار تلك المشكلة العاجلة التي ينبغي التصدي لها الآن، كما أنه لم تتضح ملامح البديل للوضع الحالي.
والحق أنه على الرغم من الضعف النسبي لأمريكا على كل صعيد تقريباً، إلا أنها لا تزال القوة العظمى الأولى حتى الآن. ولذلك فإن الوضع المهيمن للدولار على النظام الاقتصادي الدولي سيبقى طالما حافظت أمريكا على هذا التفوق النسبي. ولا يمكن زحزحة الدولار عن مكانه إلا بنشوء قوة اقتصادية مقاربة للاقتصاد الأمريكي. وعلى الرغم من أن اليورو قد ظهر كعملة دولية رئيسية منذ عشر سنوات، إلا أنه لا يزال أبعد من أن يشكل تهديداً حقيقياً لمكانة الدولار. والسبب في ذلك أن دول الوحدة الأوروبية، (وهي أوسع نطاقاً من منظمة اليورو) لم تستطع أن تحقق حتى الآن نجاحاً يمكن أن يغير ميزان القوى في العالم. ولابد من ملاحظة أن الاتحاد الأوروبي اتحاد بين دول ذات سيادة من ناحية، كما أنها دول ذات فوارق تاريخية ولغوية وثقافية من ناحية أخرى. ولذلك فهو اتحاد هش نسبياً، لا توجد فيه سلطة مركزية آمرة، كما هو الحال في الولايات المتحدة. ولكن التهديد الحقيقي للزعامة الأمريكية على المدى البعيد يأتي من الصين. وهذا يشترط له أن تحول الصين تفوقها العددي السكاني الهائل إلى فارق نوعي بالنسبة للقوى الأخرى في العالم. ويستدعي ذلك على وجه الضرورة نمو الاقتصاد الصيني، الذي يساوي في الوقت الحاضر نحو ربع حجم الاقتصاد الأمريكي، إلى درجة تقارب حجم الاقتصاد الأمريكي نفسه. ومن أجل أن يحصل ذلك فلابد من أن تعتمد الصين بشكل متزايد على عوامل النمو المحلية وبشكل أقل على التصدير إلى الخارج. كما أنه لابد لها من أن تقبل بتعويم عملتها أمام العملات الأخرى، إذ لا يمكن أن تهمين على مسرح الأحداث وأنت تابع لغيرك. وعند حدوث ذلك فقد تتحول الصين من مصدر صاف لرأس المال إلى دولة مستوردة له. وستتجه دول العالم إلى الاستثمار أكثر وأكثر في الأوراق المالية الصينية وبشكل أقل في الأوراق المالية الأمريكية، وعندها يمكن أن يزاحم اليوان الصيني الدولار الأمريكي على مكانته في اقتصاد العالم.
وسيكون هذا عامل توتر كبير جداً بين أمريكا والصين ليس لأن العالم سيتجه إلى استثمار مزيدا من أمواله في الصين وحسب، ولكن لأن هذه الاستثمارات ستعني المزيد من التنافس وربما الصراع على الموارد الاقتصادية والأسواق في العالم.
إن أحد أهم النتائج التي ستترتب على الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية أن الصين ستجد نفسها مضطرة إلى سلوك الطريق الذي شرحناه آنفاً وذلك لعاملين أحدهما خارجي والآخر داخلي. فالعامل الخارجي واضح تماماً وهو أن النمو المعتمد على الصادرات وإن كان يحقق فوائد جمة، إلا أنه يجلب معه مخاطر ربما لا تقل في حجمها عن تلك الفوائد. وأما العامل الداخلي فهو أن انفتاح الصين على العالم قد ولد لدى الشعب الصيني تطلعات وتوقعات متزايدة بمستوى أعلى من الرفاهية الاقتصادية. وإذا أخذنا في الحسبان عدد السكان الذي يشكل خمس سكان الكرة الأرضية والنمو المتزايد للطبقة المتعلمة وثورة الاتصالات التي ربطت أجزاء العالم، ومنها الصين، بعضها ببعض، أدركنا أن أية خضات اقتصادية قد تتعرض لها الصين يمكن أن يكون لها عقابيل اجتماعية وسياسية داخلية كبيرة. ومن الطريف أن نذكر هنا أن عدد الطلاب الذين كانوا يقبلون للدراسة في الجامعات الصينية قبل عشر سنوات كان نحو المليون طالب في السنة. أما الآن فإن عدد هؤلاء الطلاب يصل إلى ستة ملايين طالب سنوياً، وهو ما يزيد على عدد سكان بعض دول العالم! ويبلغ متوسط الأجر الشهري لخريج الجامعة في الصين بين ألفين وثلاثة آلاف يوان (أي ألف إلى 1500 ريال أو 266 ـ 409 دولارات ). هذه العمالة المتعلمة والرخيصة تشكل ميزة نسبية كبرى للصين على بقية دول العالم.
لقد كانت زيادة الإنفاق الحكومي للخروج من هذه الأزمة أحد جوانب الخلاف بين أوروبا وأمريكا قبيل المؤتمر. وقد عارض الأوروبيون أية زيادة في هذه الالتزامات خوفاً من الضغوط التضخمية الكبيرة التي يمكن أن تنشأ في المستقبل. والحق أن التضخم سيكون ثمناًً لا مفر منه للخروج من هذه الأزمة. ولكن السؤال هو كم سيكون معدل التضخم في كل من هذه الدول؟ لا أحد يملك الإجابة عن هذا السؤال، ولكن من المؤكد أن معدلات عالية من التضخم ستدفع الحكومات لاتخاذ إجراءات يمكن أن تبطئ من سرعة تعافي اقتصادات هذه الدول. وكلما اشتدت هذه الإجراءات ستجد الصين نفسها مضطرة وبشكل متزايد للانكفاء الاقتصادي نحو الداخل. وبدلا من تصدير المزيد من السلع ستصدر الصين إلى العالم مزيداً من التضخم كلما اشتد نموها الاقتصادي!