حبيبتي جدة.. إلى أين؟
منذ أكثر من عامين كتبت في "الاقتصادية" مقالاً بعنوان "حبيبتي جدة.. إلى أين" والذي تحدثت فيه عن اللقاء المفتوح مع الشيخ وهيب بن زقر – رحمه الله وأسكنه الجنة - الذي استضافته الغرفة التجارية في جدة وكان رئيسها آنذاك الشيخ صالح علي التركي. وكان موضوع اللقاء يدور حول مدينة جدة والمشكلات التنموية والعمرانية التي أثقلت كاهلها وأتعبت ساكنيها. وقد تميز اللقاء ببساطة الطرح والصراحة والشفافية وناقش عدة محاور مثل النسيج السكاني للمدينة والمواصلات والعمل التطوعي الاجتماعي والبيئة. وقد شارك في اللقاء مجموعة من أهل جدة الذين قدموا للمشاركة بهمومهم وقلقهم على المدينة التي شهدت تردياً ملحوظاً في العقد الأخير.
منذ أيام تم اللقاء الشهير في قاعة ليلتي مع أمانة مدينة جدة والذي حفل بتشريف أميرنا خالد الفيصل ـ حفظه الله ـ، وكان اللقاء هذه المرة عبارة عن استعراض لمسودة الخطة الاستراتيجية التي قد تعتمدها الأمانة لتطوير محافظة جدة بناء على دراسات جدوى واستشارات عالمية، ويجدر الذكر أن هذه المسودة تهدف إلى إبداء الرأي واستشارة أهل جدة في الخطة التي تنوي اعتمادها.
احتوى لقاء عام 1428هـ على كلمة حكيمة ألقاها الشيخ ابن زقر - رحمه الله - تلاها حوار مفتوح بين الأهالي تميز بالحكمة والعملية والملاحظات الجيدة وقد ناقش كما ذكرت اللقاء عدة نقاط محورية أسهمت في تردي أحوال المدينة بشكل ملحوظ وأذكر جيداً أن أيامها كان المهندس عادل فقيه قد طرح استبيانا عاماً في المواقع الإلكترونية عن آراء السكان في مختلف المرافق والخدمات، ولست أدري عن مصير الاستبيان ولكن مرت أكثر من سنتين ولم يتم الإعلان عن خطوات الأمانة في معالجة المشكلات المطروحة بناء على هذا الاستبيان. عموماً جاء اللقاء الثاني بعد أكثر من عامين - بعد الإعلان عن تمديد فترة المهندس عادل فقيه في الأمانة - وقد تميز بالحضور المجتمعي والإعلامي القوي واشتمل على فيلم مصور عن الشكل الجديد لمدينة جدة وتم استعراض محاور الخطة التطويرية الـ 13 والتي شملت جميع المناطق بما فيها العشوائية. وكان في الحقيقة فيلماً "طموحاً" فصوّر جدة على أنها مدينة خضراء (بما فيها مناطق التخلص من النفايات) زاخرة بالمياه على هيئة بحيرات وشلالات وحدائق غناء وقضى الحضور نحو ثلث ساعة من الزمان يحلمون بالعيش في جدة بحلتها الجديدة ويتساءلون عن أول يوم يتحقق فيه واحد من هذه المشاريع على أرض الواقع. بعد انتهاء الفيلم ألقى الأمين كلمة توضيحية بدأها أن الفيلم ليس خيالياً كما هو يبدو بل إن بعض المشاريع تم فعلاً الاتفاق عليها وتحديد الميزانية بل وربما إرساء بعض المناقصات.
وكل هذا جميل لو لم نسمعه من قبل، وبرغم أن هذه المشاريع تتطلب سيولة عالية وتخطيطا طويلا الأمد وتنفيذ لا يتغير بتغير المسؤولين إلا أن فترة بضع سنوات كانت كافية لمشاهدة بعض التحسن على الأقل. في لقاء عام 1428هـ تحدث الشيخ صالح التركي عن "فقدان التواصل بين مختلف الجهات التنفيذية والإدارية المعنية بالخدمات مع غياب الخطة الاستراتيجية المتكاملة"، ويبدو مما رأيته في اللقاء الثاني أن الخطط موجودة، والسؤال هو هل كانت تحتاج فعلا إلى عدة سنوات لوضعها وبدء التنفيذ؟ باعتراف المسؤولين في اللقاء الأول لم تكن هناك مشكلة تمويل أو سيولة واليوم لا تزال هذه الحقيقة واقعة بعد سنوات من فائض الميزانية.
ومن أول ما استرعى انتباهي في اللقاء هو قولبة جدة كبوابة للحرمين الشريفين وكمدينة سياحية. وقد يبدو ذلك بديهياً للوهلة الأولى ولكن بقليل من التأمل تطفو ملاحظات وأسئلة حول هذا التصور ومنها:
لو كانت السياحة هي القطاع الرئيس لاقتصاد جدة فإننا ما زلنا بعيدين عن تطويره، خاصة أن جدة تمر الآن بما يشبه إعادة إعمار شامل لبنيتها التحتية وبسرعة تنفيذ بطيئة لا تتناسب مع المأمول.
هل يعني ذلك أن أنشطة جدة الاقتصادية ستقتصر على تجارة التجزئة وبعض الصناعات الخفيفة والقطاعات الخدمية (مثل التكنولوجيا والتأمين) فقط؟ بالطبع هذا موضوع أنوي ـ إن شاء الله ـ طرحه في مقال آخر لأهميته البالغة نحو مستقبل العمل والتوظيف في مدينة جدة.
من حيث المواصلات فلا تزال جدة تئن تحت وطأة السيارات وعربات النقل المتهالكة (مثل باقي مدن المملكة) فأصبح التلوث البيئي أحد السمات المميزة لها، ومن الملاحظ فعلا ارتفاع معدلات الأمراض الرئوية بين سكان جدة لعدة أسباب أهمها تلوث الهواء. وقد أظهر الفيلم قطار المونوريل Monorail المعلق في إحدى الصور ربما دلالة على إدراج هذه الوسيلة في الخطة الحالية، إضافة إلى محطة قطار سميت بـ "جادة جدة". فإذا تحقق هذا المشروع في رأيي سيتحسن المستوى المعيشي لجدة بنسبة لا تقل عن 10 في المائة دون مبالغة.
الزيادة السكانية كانت ولا زالت تشكل حد أكبر التحديات لتخطيط المدينة فربما أن كل خطة لم تأخذ في الحسبان الزيادة المطردة في سكان المدينة (من حيث التناسل والهجرة من المناطق المجاورة). نرى اليوم الزحف العمراني باتجاه الشمال مع نقص واضح في الخدمات المساندة، حيث يقوم القطاع الخاص بسد الفجوة وبشكل غير استراتيجي أو احترافي (المستوصفات الصغيرة والمحال التجارية المتفرقة... إلخ).
إضافة إلى السياحة جاء ذكر قطاع النقل والأعمال اللوجستية كدعامة أساسية لاقتصاد جدة وهنا أتساءل عن مدى جدوى التوسعات الطموحة في ظل بيروقراطية وضعف إداري اشتهر به هذا الميناء على مدى السنوات الماضية. بالطبع ليس من اختصاص الأمانة مساءلة ولكننا نناشد الوزارات ذات الصلة بمعاونة مدينة جدة على تحقيق أهدافها وذلك بتذليل المعوقات والصعوبات، فالأمانة تظل إدارة تنفيذية ذات صلاحيات محددة ومن المهم ألا نقع في فخ اختلاف المصالح والأولويات والذي كان على قائمة معطلات النمو.
كذلك جاء قطاع التكنولوجيا والخدمات اللوجستية كدعامة اقتصادية ووظيفية رئيسة في منطقة جدة حيث يتم الاستثمار علمياً ومهنياً في تحسين تكنولوجيا المعلومات وإقامة مشاريع متوسطة وصغيرة في المناطق الحضرية والريفية والتي تساعد على إيصال خدمات الإنترنت إلى خارج المدينة.
ذكرت المسودة تحديين رئيسيين أمام اقتصاد جدة وهما ضعف مشاركة قوة العمل المحلية (وخاصة بين المواطنين السعوديين والإناث) والبطالة المرتفعة. مع الأسف فإن هذا يؤكد ما وصفه منذ عامين الشيخ صالح التركي "بضعف التواصل الفعال بين مختلف الجهات التنفيذية"، حيث تطلق وزارة العمل تشريعات قد لا تتناسب مع الاحتياجات الاقتصادية والثقافية لمختلف مناطق المملكة. فعلى سبيل المثال فإنه من المعروف أن عمل المرأة في مدينة جدة وفي قطاعات متنوعة وجديدة مقبولٌُ اجتماعياً وهنا ينبغي مراعاة الاختلاف الفكري عند سن القوانين لئلا تنتج بطالة بحجة "عدم تقبل المجتمع للفكرة". وهنا أشيد بما قام به الأمير خالد من تغيير في بند أساسي لعمل المرأة والذي يسهل كثيراً إدراجها في مختلف القطاعات للحد من بطالتها وتنشيط اقتصاد المحافظة. وفيما يلي نرى جدولا يوضح التحديات الرئيسة التي تعوق التطور الاقتصادي لمدينة جدة كما جاء في المسودة (وفقاً لدراسة أعدتها شركة الاستشارات البريطانية Happold Consulting.
بالطبع أوضحت المسودة هذه البنود بتفصيل معقول وربما تكون منشورة على موقع الأمانة الإلكتروني. ومن الطبيعي أن نتساءل هنا عن المدى الزمني المتوقع لتنفيذ هذه الخطط الطموحة وفي رأيي فإن تاريخ تطوير جدة على مدى السنوات الماضية لا يبشر بنتائج سريعة ولكني لا زلت متفائلة، حيث إنه في نهاية اللقاء دعا الأمير خالد الحاضرين والحاضرات إلى المشاركة في هذه التنمية مادياً وفكرياً واجتماعياً وأن "كلنا مسؤولون" (وهو شعار اللقاء) ووجه حديثه إلى الأمين أنه بعد أربع سنوات (وهي مدة خدمته الحالية في الأمانة) سيتم سؤاله عن مدى إنجاز هذه الخطط. يطول الحديث وللختام أضم صوتي لصوت الأمير خالد مناشدة كل مواطن أن يشارك في هذه التنمية فلا يبخل بإيصال ملاحظاته وشكواه إلى الأمانة دون يأس.. والله من وراء القصد.