عالم اقتصاد سويدي يقارن بين دبي وسنغافورة
عالما اقتصاد بارزان في العالم - الدكتور روبرت بيكارد والدكتور جارلي كارلسن - منكبان حاليا على تحرير كتاب عن اقتصاديات المناطق الحرة وقد كلفا كبار الباحثين بدراسة هذه الظاهرة من أجل المقاربة والتحليل. ولقد تم اختيار الباحثين بدقة متناهية من أجل إماطة اللثام عن خصوصيات المناطق الحرة ولاسيما السلبية منها. ولقد وضعا موازين بحثية دقيقة لقياس مدى نجاح أو فشل هذه المناطق ليس من ضمنها أي من الأمور الشائعة التي تبهر البصر مثل العمارات الشاهقة والمدن والمتنزهات الاصطناعية والمتاحف الباهرة والأرقام الفلكية للإنتاج المحلي الإجمالي ومستوى الدخل.
العالمان بودهما الوصول إلى دور السكان المحليين في هذه النهضة ''المعجزة'' وهل التطور مبني على أكتاف السكان المحليين أم الأجانب؟ وهل الآلاف المؤلفة من الشركات العالمية باتت تغرس معرفتها وعلمها وخبرتها في البيئة التي تعمل فيها؟ وهل السكان المحليون بدأوا في استيعاب المعرفة التي جرى إغواؤها من خلال امتيازات اقتصادية لا تحلم بها في بلدانها الأصلية أم لا؟ وبمعنى آخر، كم هي هذه المناطق الحرة منغرسة في بيئتها المحلية من خلال استخدام الأيدي العاملة المحلية وتطويرها كي تحتل دورها في النمو الاقتصادي ومن ثم تبني شركات وطنية تحل محل الأجنبية؟
أناط العالمان مهمة دراسة ظاهرة دبي الاقتصادية لي وطلبا مني أن أركز في الدراسة على مجموعة ''دبي القابضة'' وقطاعاتها المختلفة ولا سيما الإعلام. ولأهمية الكتاب الذي سيصدره العالمان، فلقد تم عقد حلقتين دراسيتين، واحدة في استوكهولم في العام الماضي والأخرى في لندن قبل نحو أسبوعين حضرها الباحثون كافة وبعض أهل الاختصاص، منهم عالم الجغرافيا الاقتصادية البارز سورن إريكسون من جامعة يونشوبنك السويدية. الكتاب مهم لدرجة أن العائلة السويدية التي تكفلت بالإنفاق عليه خولت المحررين - بيكارد وكارلسون - الصرف بما يمليه عليهما ضميرهما دون قيد أو شرط.
وبعد أن ألقيت ملاحظاتي عن ''دبي القابضة'' ومدينة الإعلام فيها التي تقع ضمن المنطقة الحرة حاولت إجراء مقارنة بينها وبين سنغافورة ومدينتها الإعلامية. وبينما أنا أجري هذه المقارنة، رفع إريكسون يده طالبا الحديث. ونهض على قدميه. وبصوته الجهوري وقامته الطويلة سرعان ما استحوذ على أنظار وأذهان الحاضرين. وابتدأ حديثه بالقول : ''د. برخو، أي مقارنة بين دبي وسنغافورة ستكون مثل المقارنة بين التفاح والبرتقال. الاثنان مختلقان لدرجة أن أي مقارنة بينهما تصبح دون طائل''.
سأحتفظ بما قلته عن دبي لرسالة الأسبوع المقبل، وسأركز هنا على ملاحظات إريكسون وأشكره على سماحه لي بنقلها لقرائي في ''الاقتصادية'' ووعدته بترجمة كل تعليق يرد عليها من قبلهم. ونشر ملاحظاته هنا لا يعني أنني أتفق معه تماما، ولكنني أعتقد كذلك أنه لا يجوز إغفال ملاحظات شخصية اقتصادية بحجم إريكسون الذي يعد واحدا من أبرز الاختصاصيين في العالم في جنوب شرق آسيا والمناطق الحرة. وفيما يلي موجز لما قاله:
سنغافورة دولة صناعية وظفت بذكاء مدهش كل السياسات الاقتصادية التي تتبعها دبي لإنشاء صناعة محلية تبز فيها شركاتها الوطنية مثيلاتها الأجنبية. لو ذهبت إلى أي متجر في أي بلد أوروبي لرأيت كثيرا من البضائع المصنوعة في سنغافورة، بينما ليس فيها مادة واحدة مصنوعة في دبي.
في سنغافورة مناطق صناعية تشبه من حيث الشكل المناطق الحرة في دبي ولكن مضمونها يختلف تماما. في سنغافورة الأغلبية الساحقة من المهندسين والعاملين وأصحاب الشركات مواطنون سنغافوريون منحتهم دولتهم فرصة ثمينة للاستفادة واستيعاب التكنولوجيا المقبلة. في دبي الأجانب هم من يدير ويستفيد أكثر من السكان المحليين من الاقتصاد والتنمية. وخلقت سياسة الباب المفتوح في سنغافورة شعبا راقيا ومتعلما يرقى مستواه إلى مصاف أكثر الدول رقيا في العالم، حيث أصبحت سنغافورة الآن بلدا شفافا يحتل المرتبة الثانية في العالم من حيث الشفافية وانعدام الفساد. المرتبة الأولى تحتلها السويد والدنمارك ونيوزيلندا.
وفي الشكل أيضا ترى أن الاثنين ينفقان المليارات على التربية والتعليم وعلى جذب أرقى المعاهد والجامعات في العالم لفتح فروع لها فيهما. ولكن المحتوى يختلف كل الاختلاف. في سنغافورة أسهم وجود الجامعات والمعاهد الأجنبية في إنشاء نظام تعليمي محلي يرقى إلى مستوى ما هو موجود في السويد ودول شمال أوروبا وصارت المعاهد والجامعات الوطنية نبراسا لجنوب شرق آسيا والعالم في علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء. الأمر يختلف في دبي وكل دول الخليج النفطية التي تحاول تقليدها. البون شاسع جدا بين التعليمين الوطني والأجنبي. الامتيازات تجذب أرقى الجامعات العالمية ولكن المسألة تكمن في كيفية توظيفها محليا. كم من سكان دبي الأصليين يلتحقون بهذه الجامعات، وما نسبة الإماراتيين في هيئات التدريس؟ وهذا ينطبق على البلدان الخليجية الأخرى أيضا.
وسنغافورة تعد واحدة من الدول التي تتبع وبصرامة نظام الجدارة والاستحقاق لملء كل المناصب المهمة في الدولة والمجتمع وكذلك الحصول على الوظائف المدنية والعسكرية والمقاعد الدراسية الأمر الذي أسهم كثيرا في طفرتها الاقتصادية الهائلة. وهذا الأمر صعب تطبيقه لا في دبي فقط بل في أي بلد خليجي آخر فدبي القابضة هي في الأساس استثمار شخصي لأشخاص محددين همهم ثروتهم وعقاراتهم وإيجاراتها وريعها. أما النفع العام فيأتي في المرتبة الأخيرة إن كان هناك نفع عام. في سنغافورة النفع العام يأتي في المقدمة.
سنغافورة نجحت رغم اعتمادها على العمالة الأجنبية في خلق مجتمع متجانس رغم اختلاف ثقافاته ودياناته وأعراقه. هذا لا يعني أنه لم تكن هناك مشكلات إلا أن ما يحدث في دول الخليج النفطية، حيث تصل في بعضها نسبة العمالة الأجنبية إلى السكان المحليين 10/1، شيء خطير وقد يؤدي إلى أمور لا تحمد عقباها. وكذلك لا يجوز مقارنة طريقة تعامل سنغافورة مع العمالة الأجنبية بما يحدث في دبي أو دول خليجية أخرى.
إن نجاح سنغافورة يكمن بالدرجة الأساس في نهجها وسياساتها وتصميمها على تحوير وتكييف وتطويع ما يأتيها من العالم المتدني والخارج كي يوائم بيئتها المحلية وحاجة سكانها. وهكذا ترى السنغافوريين والسنغافوريات وقد أمسكوا بناصية الحضارة والتمدن واكتسبوا العلم والمعرفة لدرجة أنهم أصبحوا أندادا لأقرانهم من الأجانب. في دبي وفي الدول التي تتبع نهجها ما زالت ناصية العلم والمعرفة بيد الأجانب الذين قدموا من أجل مصالحهم الخاصة وتم استقدامهم أيضا من أجل مصالح خاصة. تدفق المعرفة من الأجانب إلى البيئة المحلية وتطويع هذه المعرفة محليا يحتاج إلى جهد كبير وإصلاح كبير.