خالد الفيصل .. الثقة والمسؤولية والتحدي

جاء الأمر الملكي الكريم الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - رعاه الله - بتشكيل لجنة برئاسة سمو أمير منطقة مكة المكرمة وعضوية بعض كبار المسؤولين والجهات المختصة للتحقيق وتقصي الحقائق في أسباب فاجعة السيول التي طالت مدينة جدة في كارثة (الأربعاء) الأسبوع الماضي، خطوة كبيرة في الطريق الصحيح الذي ظلت تنهجه القيادة الرشيدة وهي تأخذ على عاتقها أمانة الحكم والحق والعدل تجاه الرعية كافة من مواطنين ومقيمين على السواء. وتعكس هذه الخطوة الكبيرة حرص القيادة وملك الإنسانية على وضع حد لموضوع أرّق وما زال يؤرق سكان مدينة جدة منذ عدة سنوات، كما يُعد تكوين هذه اللجنة بمستواها الرفيع وصلاحياتها الواسعة خطوة مباركة لترسيخ مبدأ المحاسبة والمساءلة وتأكيد القيادة الرشيدة على استمرار نهج سيادة العدالة وألا أحد بمنأى عن النظام والقانون الذي سيطول كل مقصر أو متهاون يثبت إخلاله بالأمانة والمسؤولية الملقاة عليه والثقة المنوطة به.
لقد اشتمل الأمر الكريم على حرص متابعة خادم الحرمين الشريفين - وفقه الله - لفاجعة الأمطار في مدينة جدة وتشخيص دقيق لها وتسليط الضوء على أوجه القصور بشجاعة، كما تضمن عبارات صريحة وواضحة تؤكد براءة الأمطار والسيول ككوارث طبيعية في التسبب في هذه الفاجعة، وأن هنالك قصوراً وتهاوناً أدى إلى مضاعفة الخسائر إلى حد الكارثة.
ومع أن الأمر الكريم أشار إلى ضرورة أن ترفع لجنة التحقيق ما تتوصل إليه من تحقيقات ونتائج وتوصيات بشكل عاجل جداً إلى المقام السامي، إلا أن الجميع يتطلع من اللجنة بعد هذه الخطوة الكبيرة من ملك الإنسانية - أيّده الله -، أن توضح مدة الانتهاء من عملها، وهل سيشمل التحقيق الأشخاص القائمين حالياً على مهامهم الوظيفية أم أن الأمر سيكون فتح ملفات قديمة لسنوات مضت، ولا سيما أن مشكلات مدينة جدة هي تراكمية على مدى عدة عقود. وعلى أي حال يتوجب على الجميع أن يتحلوا بالعقلانية والموضوعية، فهذه اللجنة ليست لديها عصا سحرية لحل جميع مشكلات جدة الكثيرة والمتشعبة بين عشية وضحاها، ويتوقع من الجميع الصبر حتى إتمام مهمتها، فمشكلات مدينة جدة معروفة والخوض فيها واجترار أحزانها ومآسيها في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به المدينة قد يكون جلداً للذات وثقافة لوم وإسقاط وتحميل للإخفاقات على الآخرين لا تجدي نفعاً، بل آن لها أن تندثر من أدبياتنا الاجتماعية والثقافية.
وبالإضافة إلى الخطوة الكبيرة والمباركة التي أقدم عليها ملك الإنسانية - رعاه الله - في قيام اللجنة، نأمل إنشاء جهاز مستقل مالياً وإدارياً يكون تحت إشراف وإدارة سمو أمير المنطقة مباشرة وله صلاحياته المالية والإدارية الواسعة والكبيرة للتفاعل الفوري والعاجل لعلاج مشكلات البنية التحتية المتهالكة للمدينة التي لم تستصحب التغيرات الزمانية والمناخية والسكانية، ويكون أعضاء هذا الجهاز من المشهود لهم بالمعرفة والعلم والحب والغيرة على هذا الوطن، ويمكن الاستعانة بأحد بيوتات الخبرة العالمية في هذا المجال بعيداً عن أصحاب المصالح والمنظرين، وفي الوقت ذاته يُناط بالجهاز مسؤولية التصدي للطوارئ والمشكلات العاجلة لهذه المدينة (التي أضحت تعيش في خطر داهم) بعيداً عن بيروقراطية الوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى وقبضتها المركزية، فمدينة جدة وصل الأمر فيها إلى حد اعتبار أنها تمر بحالة استثنائية طارئة وحرجة بكل المعايير ولا يحتمل الأمر أن يتم التعامل معها بشكل طبيعي والعودة للوزارات المعنية في كل كبيرة وصغيرة لأخذ موافقتها، وألا يُترك الأمر ليُحل عبر الطريقة التقليدية من خلال الاجتماعات والدراسات والتوصيات والرفع للوزارات المعنية، فالمطر القادم والكوارث الطبيعية والمناخية الأخرى لن تنتظر ذلك، بل إن أرواح الناس وحياتهم وذويهم لا تتحمل أي تأخير، كما يقع على عاتق هذا الجهاز وضع خطة بيئية عاجلة لمدينة جدة تعالج جميع الأخطار والمهددات البيئية التي ستنجم عن كارثة الأمطار، حيث إن الأخطار البيئية المتوقعة ربما تكون أشد فداحة من فاجعة الأمطار. كما أن تفاعل المجتمع في هذا الجهد الوطني أضحى ضرورة، وبالذات القطاع الخاص من بنوك وشركات كبيرة، بحيث يتم تخصيص صندوق خاص للطوارئ والكوارث في مدينة جدة. وكنت وما زلت أتمنى من مجلس الشورى الموقّر أن يعلن في عقد جلسة طارئة وعاجلة في أقرب وقت ممكن لبحث مشكلة جدة والمساعدة على وضع الحلول لها.
نحن على يقين أن الأمير أهل لهذه الثقة والأمانة لما عُرف عنه من نزاهة وحزم وبُعد نظر، فهو الذي استطاع بإرادته وإدارته الحكيمة أن ينهض بمنطقة عسير، ويحقق بها الإنجازات الكبيرة رغم جغرافيتها المعقدة، ولذلك فهو خير من يتصدى لانتشال هذه المدينة ومجابهة جميع مشكلاتها وتحدياتها ووضع الحلول المثلى لها، ولا سيما أن ولاة الأمر - رعاهم الله - لم يدخروا جهداً أو متابعة أو توجيهاً أو دعماً أو عملاً لكل مناطق المملكة، واعتمدت الدولة المليارات لإنسان ومـدينة جدة. نسأل الله التوفيق لهذه اللجنة ولأميرها المخلص ولأعضائها الكرام في إنجاز هذه المهمة الوطنية الكبيرة، حتى يلتئم جرح المدينة النازف وتعود جدة، كما كانت وضاءةً في جبين هذا الوطن الأبي الغالي.
اللهم ارحم موتى كارثة (الأربعاء) وأموات المسلمين أجمعين، اللهم اغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من خطاياهم كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم ارزقهم الفردوس الأعلى من الجنة، إنك سميع مجيب الـدعاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي