الأهمية القانونية للتراخيص النظامية
تدفع المصلحة العامة المشرع أحياناً إلى تقييد حرية الفرد, فلا يجيز ممارسة مهنة أو عمل أو نشاط اقتصادي إلا بعد الحصول على ترخيص من الجهة الحكومية المعنية بعد توافر الشروط المنصوص عليها في النظام أو القانون، فمثلاً في مجال المهن الحرة كالطب والمحاماة والمحاسبة والهندسة، لا يجوز ممارسة هذه المهن إلا بعد الحصول على الترخيص اللازم من قبل الجهة الرسمية المختصة، وفي مجال الملكية لا يجوز إقامة مبنى إلا بعد الحصول على ترخيص بالبناء من البلدية وبعد استيفاء الشروط المطلوبة نظاماً، كذلك لا يجوز قيادة السيارات إلا بعد الحصول على رخصة القيادة من إدارة المرور. وفي مجال ممارسة الأنشطة التجارية والاقتصادية فإن الأصل في ممارستها الإباحة إلا أنه لدواعي المصلحة العامة توجب بعض الأنظمة الحصول على تراخيص لممارسة بعض هذه الأنشطة, فمثلاً لا يجوز ممارسة أعمال النقل البري للركاب والبضائع إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من وزارة النقل, ولا يجوز ممارسة أعمال النشر والطباعة والدعاية والإعلان إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من وزارة الإعلام, ولا يجوز إقامة مشروع صناعي إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة التجارة والصناعة، ولا يجوز ممارسة أعمال الوساطة في بيع وشراء الأسهم والأوراق المالية إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من هيئة سوق المال, ولا يجوز ممارسة أعمال وكالات السفر والسياحة إلا بعد الحصول على ذلك من الهيئة العامة للسياحة والآثار.
ويقسم بعض فقهاء القانون الإداري التراخيص إلى نوعين رئيسين، الأول ترخيص يعتبر استثناء من الأصل العام وهو الإباحة والحرية, وفي هذه الحالة يعتبر الترخيص حقاً لطالبه كقاعدة عامة فلا يجوز للجهة الحكومية المختصة أن تمتنع عن إصداره إذا توافرت الشروط المطلوبة نظاماً لدى طالب الترخيص, ويترتب على ذلك أن إعطاء الترخيص لا يعتبر (منحة) ولا (تفضلاً) من جانب الجهة الحكومية، فالجهة الحكومية ملزمة بإصدار الترخيص إذا توافرت في طالب الترخيص الشروط التي حددها القانون.
والنوع الثاني ترخيص يعتبر استثناء من أصل عام هو الحظر وليس الإباحة, وذلك في حالة إذا كان النشاط المطلوب مزاولته ممنوعاً أصلاً بطبيعته مثل الترخيص للأجنبي بممارسة نشاط اقتصادي مقصور مزاولته على المواطنين كذلك الترخيص بتملك وحيازة الأسلحة والاتجار فيها. والترخيص إذا كان استثناء من أصل عام هو الحظر فإنه يعتبر في هذه الحالة (منحة أو ميزة) من الجهة الإدارية المختصة في الدولة, ويكون من ثم لهذه الجهة سلطة إصدار الترخيص أو رفض إصداره بحسب تقديرها المطلق لأن الترخيص في هذه الحالة لا يرقى إلى مرتبة الحق.
وهناك جوانب قانونية أخرى لنظام التراخيص يضيق المجال هنا عن شرحها وأكتفي هنا بالإشارة إلى الجانب المتعلق بالجزاء في حالة مخالفة أحكام الترخيص والآثار القانونية المترتبة على ممارسة العمل أو النشاط بدون الحصول على الترخيص المطلوب نظاماً. ففي حالة مخالفة المرخص له قواعد وشروط مزاولة العمل أو النشاط المرخص به فإن الجزاء يختلف بحسب نوع المخالفة، فبعض المخالفات يكون جزاؤها القانوني إلزام المخالف بدفع غرامة مالية إضافة إلى إزالة الآثار المادية للمخالفة إن كان ذلك ممكناً. وقد يترتب على المخالفة إغلاق المحل التجاري أو وقف نشاط المرخص له مدة معينة أو إلغاء الترخيص إذا كانت المخالفة جسيمة. فمثلاً نصت المادة (38) من نظام المطبوعات والنشر الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/32 وتاريخ 3/9/1421هـ بأنه (مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد ينص عليها نظام آخر، يعاقب كل من يخالف حكماً من أحكام هذا النظام بغرامة مالية لا تتجاوز 50 ألف ريال، أو بإغلاق محله أو مؤسسته مدة لا تتجاوز شهرين، أو بإغلاق محله أو مؤسسته نهائياً، ويصدر بالعقوبة قرار من الوزير بناء على اقتراح اللجنة المنصوص عليها في المادة الـ 37 من هذا النظام).
أما في حالة ممارسة العمل أو النشاط بدون ترخيص فإن بعض الأنظمة تكتفي بفرض جزاء مالي (غرامة) وبعض الأنظمة تفرض جزاء مالياً وجزاء سالباً للحرية (الحبس) وتخير الجهة القضائية المختصة بين فرض هاتين العقوبتين معاً أو تطبيق إحداهما بحسب تقديرها لجسامة المخالفة، فمثلاً قررت المادة (37) من نظام المحاماة أن (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة أو بغرامة لا تقل عن 30 ألف ريال أو بهما معاً:
أ - الشخص الذي انتحل صفة المحامي أو مارس مهنة المحاماة خلافاً لأحكام هذا النظام.
ب - المحامي الذي مارس مهنة المحاماة بعد شطب اسمه من جدول المحامين، ويتم توقيع هذه العقوبات من القضاء المختص.
أما بشأن الآثار القانونية المترتبة على التصرفات التعاقدية التي يبرمها مع الغير ممارس العمل أو النشاط بدون ترخيص نظامي, فإن المستقر عليه في الأنظمة القانونية المقارنة أن العقد يكون باطلاً في حال نشوئه على أساس تصرف أو فعل نهى المشرع عنه ونص على تطبيق عقوبة جنائية على مرتكبه، لأن العقوبة تشرع من أجل حماية المصلحة العامة، وكل تصرف يخالف هذه المصلحة يكون باطلاً. ويترتب على بطلان العقد عدم الاعتداد به وزوال كل أثر له وإعادة أطرافه إلى الحالة التي كانوا عليها قبل إبرام العقد، مع إلزام الطرف المتسبب في البطلان بتعويض الطرف الآخر عما يكون قد لحقه من ضرر بسبب ذلك.
وقاعدة بطلان العقود المخالفة لأحكام القواعد النظامية الآمرة أو التي يكون موضوعها تصرفا معاقبا عليه جنائياً، قد أخذت بها وأكدتها بعض القرارات الصادرة من بعض الهيئات واللجان ذات الاختصاص القضائي في السعودية, ولعل أحدث مثال على ذلك قرار أصدرته لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية أشارت إليه جريدة ''الرياض'' في ملحقها الاقتصادي الصادر بتاريخ 24/3/1431هـ الموافق 10/3/2010، والمتضمن الحكم ببطلان عقد وساطة في إدارة محفظة مالية أبرمه المدعي مع المدعى عليه الذي يملك مؤسسة تجارية خاصة غير مرخص لها من هيئة سوق المال بممارسة أعمال الوساطة وإدارة المحافظ المالية وقد ألزمت اللجنة المدعى عليه بإعادة المبلغ الذي تسلمه من المدعي بموجب العقد المقضي ببطلانه مع تعويض المدعي عن الأضرار التي لحقت به بمبلغ قدرته اللجنة. لقد شعرت بالغبطة والارتياح لتطبيق لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية قاعدة بطلان العقود المخالفة للأحكام النظامية الآمرة لأنني سبق أن أصبت بخيبة أمل من هيئة تحكيم مكونة من ثلاثة رجال قانون، أحجمت عن تطبيق هذه القاعدة في قضية دفعت فيها كمحام عن المدعى عليه بدفوع شتى، في مقدمتها الدفع ببطلان (عقد الأتعاب) المبرم بين طرفي النزاع لأن المدعي انتحل صفة المحامي ومارس أعمال المحاماة بدون ترخيص نظامي، فتجاهلت هيئة التحكيم هذا الدفع المهم فكان حكمها مشوباً بعيب مخالفة أحكام نظام المحاماة ولائحته التنفيذية.