الفضاء المذهبي
مثلت القنوات الفضائية في عصر الاتصال أملا بازغا لنقل الثقافة العربية والإسلامية إلى العالم، ونفي الصورة النمطية السلبية التي يروجها الإعلام الغربي بشكل دائم في مختلف وسائله الإعلامية، وهي صورة تهضم هذا الحق الحضاري التنويري الذي كان يمكن للثقافة العربية والإسلامية أن تلعبه في عالم اليوم، كما أنها صورة تركز على الترويج للنموذج الغربي في مختلف مجالات الحياة، وتغيب قيم ثقافتنا وتراثنا وفكرنا وأنماط حياتنا العربية الأصيلة.
بيد أن إنشاء القنوات الفضائية العربية الذي بدأ بشكل رسمي مع بدايات عقد التسعينيات من القرن العشرين، ثم أسهم القطاع الخاص بنصيب وافر في إنشاء هذه القنوات حتى تخطت خمسمائة قناة، لم يستطع أن يقدم شيئا ذا بال في تغيير هذه الصورة النمطية السلبية لدى الغرب، بل إنه لم يستطع أن يقدم الصورة الحقيقية للواقع العربي بما يرضي هموم وتخيلات وأحلام الشارع العربي، فركزت هذه القنوات على الترفيه، وتقديم الثقافة الاستهلاكية العابرة، ونشر موبقات الفيديو كليب، والثقافة الرخيصة التي لا تعبر بشكل حقيقي عن ثقافة الأمة، أو عن أفكارها ورؤاها الحقيقية.
ومن أخطر ما ابتليت به بعض هذه القنوات خاصة ما يسمى بالقنوات الفضائية الدينية أنها نقلت كل الخلافات التي عانتها الأمة الإسلامية طوال تاريخها المديد الذي تتضمنه الكتب والمتون والحواشي الموروثة، نقلتها إلى برامجها المبثوثة للمشاهدين، فوجدنا أن الخلافات المذهبية حاضرة بين مختلف الطوائف، وقدم الدين الإسلامي للمشاهدين بألف دين ودين، فهذا سني وهذا شيعي وهذا طائفي، وهذا مدلس، وذاك مرتد ... إلخ هذه الأوصاف التي لا تليق بقنواتنا الفضائية، ولا بالبعد الفكري الذي يجب أن تحمله قيمنا الإسلامية، ويقدمه ديننا الإسلامي، كما استنهضوا النائم في بطون تلك الكتب من فتاوى وعداوات، فكان لها أن أضعفت رسالة الأمة وحضورها.
فلم نشاهد في هذه القنوات حوارات علمية موضوعية مفيدة، ولا رأينا قراءات تأويلية جديدة في فقهنا القديم أو المعاصر، ولا لمسنا آراء حقيقية في قضايانا الراهنة، سواء تلك التي تتعلق بالعلم والمعرفة أو الترجمة أو الإبداع أو الفنون أو قضايا الشباب أو قضايا المرأة، ما نراه هو نوع من الجدل والسفسطة وإعادة الخلاف الدائم القديم بين مختلف المذاهب الإسلامية.
فهل تقدم هذه القنوات جديدا حين تستدعي هذه الخلافات؟ وبماذا تختلف عما قدمته كتب هذه المذاهب القديمة من فتاوى وعداوات لم تسفر إلا عن تعميق فرقة المسلمين وضعف موقفهم الحضاري؟ إن أغلب قضايا هذه القنوات المذهبية تكرس المختلف عليه من أجل فرقة الأمة، وأضافت لها قضايا سطحية تدور حول الحجاب والنقاب والزي الإسلامي والسواك وفك السحر، وتفسير الأحلام، والحسد، والعين، وعالم الجن، وعالم الموت .. فهل هذه هي كل القضايا التي تهم عالمنا العربي والإسلامي الذي يعاني الفساد وضعف التنمية، والتدهور العلمي والطبي والصناعي والزراعي، كما يعاني الشباب البطالة، وضيق الأفق؟
وهل لا مست هذه القنوات واقعنا بشكل حقيقي؟ وهل تطمئن تماما إلى المستقبل الذي تواجهنا فيه تحديات كثيرة من محاولات طمس الثقافة والهوية؟ واستثمار طاقاتنا في غير مجالاتها بحيث تصبح تابعة دائما للنموذج الغربي؟
إن قنواتنا الفضائية مطالبة بأن تعدل من توجهاتها، وأن تقدم ما تزكو به حياتنا الراهنة، وأن تكون على شفا سؤال دائم يسعى للتطوير فيما يسعى للتغيير، وأن تتضمن برامجها أسئلة جديدة في الفقه والثقافة والعلم والتنوير، فيما هي تحافظ على الأصالة الموروثة في صيغتها المتوهجة التي تجعل من الماضي طاقة للمستقبل، وداعيا إلى الوحدة الإسلامية وتوحيد الأهداف والغايات ومقارعة الأمم بالحجة الدامغة على عظمة هذا الدين، وتجعل من التراث محفزا للواقع، وأن تتخلى عن هذه الخلافات المذهبية التي أعاقت تقدم هذه الأمة كثيرا، وحدت من طموحاتها في العلم والإبداع والمعرفة. لقد شغلتنا هذه القنوات ببعضنا، وأنست الأمة رسالتها، فهل من منقذ؟!!!