أزمة مياه النيل
عندما تستهدف دولة بمكانة مصر كانت ذات يوم حاضرة وفاعلة في إفريقيا وكانت ذات دور كبير في تحقيق استقلال هذه الدول، كيف تنقلب المعادلة ليصبح الأمن المائي القومي لمصر والسودان عرضة للشد والجذب من قبل دول وجدت في ضعف الدور أو تراجعه مجالا لتحقيق مكاسب مائية وسياسية, ولربما يصل الإيذاء إلى الأمن القومي المصري العربي جزءا من عملية صراع إقليمية أكبر في ظل حضور إسرائيلي وإيراني وأمريكي وصيني كبير في إفريقيا؟ ما طبيعة الموقف والرد المصري؟ وكيف يمكن استعادة الدور المصري العربي في إفريقيا التي تربطنا بها علاقات تاريخية وطيدة؟
بعد فشل مؤتمر دول حوض النيل، الذي عقد في منتصف نيسان (أبريل) الماضي في شرم الشيخ في التوصل إلى حل وسط بشأن الخلاف حول تقاسم مياه نهر النيل، بدأت بوادر أزمة خطيرة ومعقدة حول مياه النيل في الظهور، حيث لجأت دول المنبع إلى توقيع اتفاق إطاري جديد لتوزيع مياه النيل، متراجعة بذلك عن الاتفاقيتين اللتين نظمتا مسألة تنظيم وتقاسم مياه النيل، وهما اتفاقيتا عام 1959، وعام 1929، وذلك على الرغم من المعارضة الشديدة التي أبدتها كل من مصر والسودان. ويبدو أن مياه النيل، التي شكلت على الدوام مصدر الحياة والعطاء، أخذت تتحول، بفعل تضارب مصالح دول حوضه إلى جانب التدخلات الدولية والإقليمية، إلى مدار صراع، بدأت تلوح نذره في الأفق، بعد إقدام دول المنبع على توقيع اتفاقية عنتيبي في أوغندا، التي تنص على توزيع الحصص بالتساوي بين كل دول حوض النيل. وتعد الاتفاقية الجديدة، التي انفردت بها دول المنبع، مناقضة للاتفاقيتين السابقتين المعترف بهما دولياً. وهناك من اعتبرها بمثابة "الطلقة الأولى" في حرب المياه بين كل من دول المنبع (تنزانيا, رواندا, أوغندا, إثيوبيا, كينيا, الكونغو, وبوروندي) ودولة المصب مصر ودولة الممر السودان، نظراً لأن هذه الاتفاقية تمس الحقوق المكتسبة والتاريخية المصرية والسودانية في مياه نهر النيل، ويشي انفراد دول المنبع على توقيعها بوجود تحريض إسرائيلي، بعد أن بات التغلغل الإسرائيلي واضح البصمات في معظم دول المنبع، ومن مصلحة إسرائيل تصعيد أزمة مياه النيل، ذلك أن مصر تعتمد بشكل شبه كلي في زراعتها ومشاريعها على مياه هذا النهر العظيم، وكذلك السودان الذي يعج بالأزمات والصراعات.
اتفاقيات تقاسم المياه
من الواضح أن اتفاقية عنتيبي لا تتضمن استجابة للمطالب المصرية والسودانية، وليس من مصلحة مصر نشوء أزمة في منطقة التماس العربي ـ الإفريقي، خصوصاً أن أزمة جديدة تلوح في الأفق حول مستقبل السودان كدولة موحدة، مع احتمال حصول انفصال إقليمه الجنوبي مع الاستفتاء المنتظر قيامه في كانون الثاني (يناير) من العام المقبل. وارتفعت في الآونة الخيرة أصوات مصرية، تعتبر أن أي إجحاف بحقها في مياه النيل هو بمنزلة إعلان حرب، وأن المياه تعد خطاً أحمر، يفضي تجاوزه إلى تهديد الأمن القومي المصري.
وترى مصر أن الاتفاقيات التي تنظم تقاسم مياه الأنهار الدولية لا يمكن تعديلها بشكل أحادي الجانب، وتدعو إلى مواصلة الحوار، بغية التوصل إلى تفاهم، مستندة في موقفها إلى ما ينص عليه القانون الدولي بهذا الخصوص. في المقابل ترفض دول منبع النيل دعوة مصر، وتهاجم ما تسميه الاتفاقيات "الاستعمارية"، زاعمة أنها حملت "إجحافاً" في توزيع حصصها من المياه، وأن ظروفاً كثيرة استجدت اليوم، سواء من جهة عدد السكان أم من جهة تنامي الخطط والمشاريع التنموية، وازدياد قيمة المياه في ظل الظروف المناخية المتغيرة، الأمر الذي يتطلب ـ حسب وجهة نظرها ـ مراجعة حصص ونسب توزيع مياه النيل. وترجع مشكلة تقاسم مياه النيل وتنظيم مياه روافده إلى عام 1891، حيث وقعت بريطانيا باسم كل من مصر والسودان اتفاقية مع إيطاليا، التي كانت تحتل إريتريا في ذلك الوقت، تعهدت بموجبها إيطاليا بالامتناع عن إقامة أي أعمال أو منشآت على نهر عطبرة، يكون من شأنها التأثير بدرجة محسوسة في مياه نهر النيل. كما وقعت بريطانيا عام 1902، نيابة عن مصر والسودان، اتفاقا مع إثيوبيا، تعهدت بموجبه الأخيرة بعدم القيام بأعمال على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو السوباط، تؤدي إلى التأثير في مياه النيل، إلا بعد موافقة الحكومة البريطانية والسودان. وأبرمت بريطانيا في عام 1906 ممثلة للسودان مع الكونغو اتفاقية، تلتزم بمقتضاها الكونغو بعدم إقامة أي منشآت بالقرب من، أو على، نهري السمليكي وتانجو من شأنها أن تقلل من المياه التي تصب في بحيرة البرتا دون موافقة حكومة السودان. وتعد اتفاقية عام 1929 أهم الاتفاقيات حول النيل، كونها أبرمت بين مصر وبريطانيا نيابة عن السودان وكينيا وتنزانيا وأوغندا، وأقرّت بريطانيا بموجبها بالحق الطبيعي والتاريخي لمصر في مياه النيل، واعتبرت المحافظة عليها مبدأ أساسيا، كما أقرّت عدم جواز إقامة أو إجراء أي أعمال بخصوص الري أو توليد الطاقة على النيل وفروعه أو البحيرات، التي ينبع منها، التي يمكنها بأي شكل مس مصالح مصر، سواء تعلق الأمر بتقليل كمية المياه أم تعديل منسوبها أم طريق وصولها، إلا باتّفاق مع الحكومة المصرية، وأقرت كذلك بحق مصر في مراقبة مجرى النيل ومنبعه إلى مصبه. وحددت هذه الاتفاقية نصيب مصر بـ 48 مليار متر مكعب من مياه النيل سنوياً. وجاءت اتفاقية عام 1959 كي تصنع علامة فارقة في تاريخ تنظيم وتقاسم مياه نهر النيل، كونها وقعت بعد استقلال السودان وانفصاله عن مصر، الأمر الذي عنى زيادة عدد دول حوض النيل. واعتبرت هذه الاتفاقية مكملة لاتفاقية عام 1929، لكنها تميزت باهتمامها بالتفاصيل، التي عكست هاجس سد ذرائع الخلاف الممكنة حول مياه النيل. وأقرت هذه الاتفاقية نصيب مصر من المياه الذي نصت عليه الاتفاقية السابقة، مقابل أربعة مليارات متر مكعب من المياه سنوياً للسودان، وأقرت كذلك بحق مصر في إنشاء السد العالي، بوصفه أول حلقة من سلسلة مشاريع التخزين المستمرة لمياه النيل، على أن تقوم السودان بإقامة خزان الروصيرص على مياه النيل الأزرق. وحملت الاتفاقية الأخيرة في عنتيبي نذر مشكلات كثيرة، كونها تتسبب في تقليص حصص مصر والسودان من مياه نهر النيل، وتشير إلى تعنت الدول الإفريقية المطلة عليه، وتخطيطها لاستغلال المياه وإقامة السدود، وإلى وجود تدخلات وضغوط الدولية وأصابع صهيونية حرضت على الإقدام على مثل هذه الخطوة الخطيرة. ويبدو أن إقدام دول المنبع على توقيع اتفاقية دون موافقة مصر والسودان عليها، يشكل تحدياً غير مسبوق في مشكلة الخلاف حول مياه النيل، الأمر الذي يطرح تساؤلات عديدة حول الدوافع والحيثيات وحول المستقبل.
أسباب أزمة النيل
تختلف مواقف دول منبع النيل ومصبه حول مشكلة مياه النيل، إذ غالباً ما كانت إثيوبيا تقوم بفرض الأمر الواقع، من خلال قيامها بخطوات أحادية، من منطلق كونها المساهم الأكبر في حصة مياه نهر النيل، وترى أن لديها مناطق في غرب البلاد تحتاج إلى مياه النهر وإلى طاقة كهرومائية. وكانت دائمة الرفض للمشاركة في كل ما يتعلق بمفاوضات دول حوض النهر، ورفضت التوقيع على "اتفاق الإطار" للمجاري المائية العابرة للحدود، الذي جرى توقيعه عام 1997 في الجمعية العامة للأمم المتحدة. أما بالنسبة لدول حوض النيل في منطقة الهضبة الاستوائية، وهي رواندا وبوروندي والكونغو وتنزانيا وأوغندا وكينيا، فقد اختلفت مواقفها عبر تاريخ النزاع، طبقاً لعلاقاتها مع مصر ولظروفها الديموغرافية والاقتصادية والتنموية.
ولا أحد ينكر دور النيل في الاقتصاد المصري، وفي حياة المصريين، فهو عماد الزراعة في مصر، ومصدر توليد الطاقة الكهربائية، وأهميته في السودان لا تقل عن مصر، وعن سواها من دول الحوض. وهناك مشكلة واقعية حول تقاسم مياه النيل، على الرغم من أن اتفاقيتي عام 1929 وعام 1959 شكلتا لفترة طويلة من مصدر استقرار علاقات دول حوض النيل، والتفاهم حول تقاسم مياهه.
ولا شك في أن أسباباً عديدة أسهمت في بروز أزمة النيل، لعلّ أهمها تراجع الاهتمام المصري بإفريقيا مع نهاية السبعينيات، وإعادة صياغة الأولويات المصرية الدولية. في المقابل تزايد الدور الإسرائيلي في إفريقيا، ويكفي أن نذكرّ هنا بزيارة وزير خارجية إسرائيل أفيغدور ليبرمان إلى إثيوبيا وعدد من الدول الإفريقية الأخرى، في أيلول (سبتمبر) الماضي، وكان معه وفد من رجال الأعمال وخبراء الزراعة والمياه. ولا شك في أن السياسة الإسرائيلية تهدف إلى محاصرة مصر وخلق المشكلات لها. يضاف إلى ذلك سعى بعض دول المنبع إلى لعب دور القوى الأساسية الإقليمية في إفريقيا، من خلال بناء النفوذ وتعزيز دورها في القارة السمراء. كما أن دول المنبع تبنت سياسات تنموية زراعية، تستدعي بناء السدود ومحطات توليد الكهرباء، الأمر الذي يقتضي منها إعادة النظر في اتفاقيات تقاسم المياه.
البحث عن الحل
إن الأجدى لمواجهة مشكلة مياه النيل هو البحث عن حلّ يقوم على مبدأ الشراكة بين دول المنبع ودول المصب والممر، الذي يتجاوز مشكلة المياه ليدخل في إقامة مشاريع تنموية حقيقية متعددة الأطراف والأهداف، تستند ضمن أمور أخرى إلى المياه، وكذلك ترشيد استعمال المياه، والبحث عن مصادر بديلة، خصوصاً في مصر، ومعالجة مشكلة التزايد السكاني المفرط. وينبغي لمواجهة مشكلة المياه، داخلياً، وبشكل عام، المسارعة إلى القيام بمشاريع خلاقة، من خلال اعتماد سياسة بناء السدود الكبيرة والصغيرة، وذلك للحدّ من هدر المياه وضياع مياه الأمطار والثلوج الذائبة في الجبال والسهول، والبحث عن مصادر أخرى للمياه، وإقامة مشاريع مجدية، مثل تحلية مياه البحر، واستغلال مياه الصرف الصحي، وتشريع أنظمة وقوانين تحاسب على هدر المياه، وتضمن عملية تأمين التوزيع العادل للمياه على المواطنين والمزارعين الصغار والكبار، وتضمن كذلك حماية البيئة من التلوث والتصحّر، والقيام بحملات تشجير دائمة. ولعل الأهم، على الصعيد الخارجي، هو عودة مصر إلى إفريقيا، بل عودة العرب، والعمل على إعادة صياغة العلاقات العربية ـ الإفريقية، وتأسيسها وفقاً للمصالح المشتركة، الاقتصادية والتنموية، وبلورة سياسات مشتركة مفيدة للجميع، وعدم ترك المجال لإسرائيل التي تعمل على تخريب علاقات العرب مع الدول الإفريقية. وتأتي هنا ضرورة بلورة استراتيجية عربية حيال إفريقيا، خصوصاً دول القرن الإفريقي، تنهض على اعتبار أن العالم العربي وإفريقيا إقليمان ينتميان إلى العالم النامي على الصعيد الدولي، وانتهاج سياسات استراتيجية كبيرة وشاملة في أبعادها، تسمح بإعادة وصل ما انقطع في منطقة التماس العربي ـ الإفريقي، وبناء علاقات تعاون وشراكة معها. ويعتبر ذلك تحديا كبيرا يواجه الدول العربية، لكنه ليس مستحيلاً، نظراً لأن صياغة علاقات شراكة عربية ـ إفريقية أمر يصبّ في مصلحة الجميع، عرباً وأفارقة.