المخلص العربي .. موجات الضيق والعسر تصطدم بالواقع السياسي
تؤمن شعوب الشرق عامة والمسلمون بشكل خاص بفكرة الخلاص، وقد تجسدت هذه الثقافة في إطارها الاجتماعي (التراثي التاريخي) وبخاصة في بعدها الديني، وما يهمنا فيها أن فكرة الخلاص كانت دائما تعبيرا عن فقدان القدرة على التغيير من جانب وبحثا عن أمل يتجسد في شخصية ولو كان هذا الأمل غائبا ينتظر قدومه، كما هو في التراث الإسلامي الشيعي.
لكن لكل من مجتمعات العالم وبخاصة الشرق لكل منهم منتظره ومخلصه، وانسحب هذا ليس على العادات والتقاليد والأديان فحسب، وإنما انسحب مجددا أيضا على الأحزاب السياسية والنقابات المهنية المفترض فيها أن تتعامل مع الواقع لا مع الغيبيات أو اتخاذ شخصية وتحميلها عبء حالة فشل تاريخي أو رغبات وطموحات مستقبلية بالتغيير، فالكل له طوطمه الخاص يقدمه قربانا للتغيير، لكنه يصطدم بالواقع ليكتشف المواطن أن الأمن والاستقرار أولا، وبالتالي يتراجع الناخبون عن خطاب المعارضة المدجج بالكلمات والأماني، لتكتشف في المحصلة أنها ضخمت كثيرا ونفخت كثيرا في شخصية المخلص لتلملم أطرافها لا لتدرس أسباب فشلها، وإنما لتبحث عن مخلص آخر .. وهكذا تستمر المعارضة والسلطة بين البحث عن الأمل وبين واقع يفرض نفسه.
وعبر تجربة طويلة أحيطت فكرة المخلص بثوب خاص، وعبر صيرورة طويلة صارت هناك تجاذبات بين المسلمين بعامة جعلتهم يرون في أي مصلح شكلا من أشكال الخلاص النهائي الذي يغير واقعهم، ويدخلهم باب الحرية ويخرجهم من ظل الاستبداد الثقيل.
فكرة المخلص المنتظر كانت تجد في فكر المعارضة مجالا رحبا للنمو، ومع أن خطابات المعارضة لم تفلح في كسر هيمنة الخطاب السائد أو تقوضه، إلا أنها في لحظات كثيرة كانت تتماهى مع السائد وتمارس بياتا غير واع، أو سكوتا ولجوءا إلى الحياد البارد المؤقت الذي ما يلبث أن ينتهي مع ظهور بارقة أمل تتمثل في شخص أو مجموعة تقدم نفسها أو يقدم نفسه بديلا عن الواقع المثقل بظل التخلف والتردي.
ولو حاولنا تقريب الصورة أكثر لوجدنا أن المجتمع المصري يصنع له مخلصه رغم أن مصر تعد من أعرق الدول العربية مدنية وتحضرا ومؤسسات حزبية ونقابية ومجتمع مدني، إلا أن خطاب المعارضة المصرية يبحث عن مخلص من خارج الدائرة وربما خارج إطار العملية الدستورية ليحدث التغيير، وهو التغيير التي تطمح إليه المعارضة، رغم عدم مشاركة عموم المصريين لها في منهجية التغيير، لأن رؤيتهم للتغيير في مصر ضمن إطار أوسع، في مقدمته أمن واستقرار مصر، وهي مرحلة تجسدت كثيرا في فترة حكم الرئيس المصري محمد حسني مبارك، وما يعنينا هو ظاهرة المخلص وتجددها دائما.
مع وصول محمد البرادعي إلى مصر عائدا من وكالة الطاقة الذرية بعد أن أنهى ولايته فيها، ارتفعت صورة الرجل في مقار الأحزاب المصرية المعارضة وخرجت وفود من المصريين لاستقبال موكب عودته، في استقبال احتفالي فيه مبالغة، وهذا مؤشر حسب رؤية المعارضة أنه عائد بأجندات سياسية وربما بدعم خارجي أو لقناعة خفية لدى المعارضة بانعدام وجود شخصية من بينها تتجسد فيها صورة المخلص، ولهذا تم استيراده من الخارج طالما أنه قادم ومعه ما سمي "وجبة إصلاحية" في مصر، وعلى رأس تلك الأجندات المطالبة بتعديلات دستورية من شأنها تمكين البرادعي من تحقيق رغبته لخوض انتخابات الرئاسة، رغم أن الترشح للانتخابات الرئاسية يشترط له انتظام المترشح أو انخراطه أو ترشحه على قائمة حزب، ومنذ العودة والحراك السياسي الذي بدأه البرادعي صعد سؤال السياسية اليومي بعد أن كان سؤال خبز وبطالة إلى سؤال آخر مفاده هل: السيد البرادعي "هو المنقذ والمخلص" الذي تنتظره مصر، أم لا؟
البرادعي وإن كان أبدى معارضة لفكرة المخلص المنتظر، إلا أن سلوكه السياسي يفسر على أنه يمضي نحو ذلك، أو أنه قبل بأن يمثل ذلك الدور، وبات الشارع المصري اليوم مشغولا بما يمكن أن تنتهي إليه سجالات السياسية اليومية، في بلد شهد أول الثورات الوطنية في العالم العربي عام 1919، ومع ذلك فإن علينا أن نطرح سؤالا غاية في الأهمية وهو: ماذا لو فشل المخلص في تحقيق وتجسيد فكرة الخلاص، ماذا يحل بالناس التي حملته مسؤوليات تاريخية لا سبيل لتحقيقها بمجرد الحصول على ملامح شخصية تتجسد فيها عوامل قبول الرأي العام؟ وهذا ما شهدناه في الأسابيع الماضية من إحلال شخصية رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لتصبح في الصورة الذهنية العربية المنقذ والمحرر كخير شاهد على مآل مسيرة الأمل العربي أمام إسرائيل والسياسات الأمريكية والفشل العربي.
من باب التأصيل، فكرة المخلص المنتظر، مستودعة في الثقافة العربية، وعبر تجربة الإسلام والعروبة معا، كان لافتا حضور هذه الفكرة في لحظات وموجات الضيق والعسر السياسي الذي أصاب المجتمعات العربية والإسلامية، فيما سبق ظهرت حالات من القادة الملهمين الذين قيل إنهم سيعيدون للأمة وجه كرمتها، من مثل صدام حسين أو حسن نصر الله، لكن كل التحليلات والدراسات الاجتماعية السياسية تشير إلى أن هذا النمط من الشخصيات لا يؤمن بالقانون والدستور لأن كلامه وحضوره هو الدستور ويستمد منه الأمل والقوة والنصر، وهذا النمط من القيادات مؤلم حالة فشله لأنه غير مؤسساتي وغير واقعي وغير عقلاني.
المشهد الراهن اليوم في نموذج البرداعي، يتجاذبه، أمران، أولهما الحديث عن وطنية البرادعي واتساقها مع ضرورة ما يجب أن يتوافر من مطالب ومواصفات في رجل السلطة من إقامة أو بقاء في دولته وضرورة خروجه من بين أبناء جلدته وعيشه ذات المعاناة التي يعيشونها، أو في الحديث عن تهمة الاستقواء بالغرب، وبالتالي جر الدولة لخيارات إصلاحية قسرية بمواصفات الغرب الذي يحمل المسؤولية الكبرى عن فشلنا السياسي.
في الحالتين تشق مسيرة البرادعي الإصلاحية طريقها من رحم أزمة الدولة العربية المابعد حداثية، وقد استحالت زخارفا تخفي طابعا تقليديا نمطيا لا يزال يحبو باتجاه التداول والشراكة في الحكم. ولعل حجر العثرة في مسيرة البرادعي ذلك التقابل الذي يفرضه المشهد المصري بين ما يعرفه المصريون وما لم يعرفوه في اختصار للمثل الشعبي" اللي بتعرفه أحسن من اللي ما بتعرفه".
الثقافة المصرية جزء من ثقافة عربية، فضلت حد اليقين مقولة "بقاء القديم على قدمه" في مواجهة التغيير، لكن الثابت أن هذه الثقافة وإن شنفت آذانها لأفكار مصلحين من خارج دائرتها العربية، إلا أنها لا تطيل السماع، فهي تجد في منظومتها الدينية والفكرية والثقافية ما يرفض فكرة استيراد النماذج، ويصعد في مقابل ذلك فكرة الإصلاح من الداخل وعلى أساس صلاح الأمة بما صلت به في أول زمانها.
في موازاة ذلك، وفي غضون قرن من الزمان تحرك العالم الإسلامي والعربي ملبيا نداءات القومية والإسلام، والحال أنه لم يعد عالما خاصا، إلا في نظر الأوروبيين، على أنه بقي مع ذلك عالماً خاصا بنسبة معينة، ففي مصر اندلعت ثورة عام 1919 بقيادة حزب الوفد بنخبته السياسية الوطنية، ومن ثم قامت في مصر ثورة تموز (يوليو) 1952 التي أتت بأبناء الريف للحكم، والتي ما زالت رواسبها حتى اليوم. ولكن مهما اختلفت النتائج بين ثورتي مصر، بقيت النظرة العامة لرموز الثورة في مصر محترمة، وكان انتماء رموزها للمجتمع بهمومه كفيلا بأن يلقي عليها ظلال شرعية حراكها السياسي الذي نهضت به، رغم أن هناك نقدا لهذه التجارب يؤكد أنها أسهمت في تحطيم البنى الاجتماعية في مصر وأسهمت في إبعادها عن دورها التنموي والتمديني.
القول السياسي اليوم للبرادعي، وصل الشارع، لكنه يواجه بأنه قول زعيم يبدو في عيون أنصاره مُخلصا، وفي عين السلطة هو مقدم ــ وهو مصطلح مملوكي ــ لمجاميع التفت على حاضر سياسي معلق بغدٍ سبق أن نسخه أمس الأول، غد متوقف بمصائر غير واضحة البوصلة، وبحسب مقولة كانط "النتجية تأتي بعد السبب" فوصول البرادعي عمق انقسام المصريين وما زال ممعنا في التقسيم باستطالته ليصبح جزءا من الواقع اليومي للنهار السياسي.
ومع أن مجتمع مصر ظل حيا وشهد حركات سياسية ذات صفة احتجاجية ومنها حركة كفاية، إلا أن وجود البرادعي على رأس التحالف المصري لأجل الإصلاح، جعل الراهن المصري في مواجهة مع ذاته وكشف العقل السياسي المصري ووضعه أمام مرآة مقعرة سلطت الكم الهائل من ضوء السياسية اليومي ورفعته إلى حد عدم احتماله من جانب سلطة الدولة.
هذا الضوء لا ترغب سلطة الحزب في مصر أن يشتعل بين أحضانها فمطالب البرادعي تبدو واضحة ولا تقبل التأويل وهي: إنهاء حالة الطوار وتمكين القضاء المصري من الإشراف الكامل على العملية الانتخابية برمتها والرقابة من قبل منظمات المجتمع المدني المحلي والدولي على الانتخابات. وتوفير فرص متكافئة في وسائل الإعلام لجميع المرشحين وخاصة في الانتخابات الرئاسية وتمكين المصريين في الخارج من ممارسة حقهم في التصويت بالسفارات والقنصليات المصرية وكفالة حق الترشح في الانتخابات الرئاسية دون قيود تعسفية اتساقاً مع التزامات مصر طبقاً للاتفاقية الدولية للحقوق السياسية والمدنية، وقصر مدة الرئاسة على فترتين متتاليتين والانتخابات عن طريق الرقم القومي. ومثل هذه المطالب تستلزم تحقيق بعض إجراءاتها وتوفير ضماناتها تعديل المواد 76 و77 و88 من الدستور المصري.
لا تظهر المطالب صعبة أو بعيدة عن تراث مصر الثوري الإصلاحي، لكنها تعيد مشكلة تداول السلطة للواجهة، وهذا ما يجعل البرداعي أشبة بكرة الثلج زادت سرعتها مع تحالف قوى التيار الإسلامي ــ الإخوان المسلمين ــ معه، ومع أن الجماعة تريثت في البداية للإعلان عن تعلقها به، إلا أنه كان بالإمكان تفهم هذا التريث من قبل الحركة لو أنها مُقدمة على طرح برنامج سياسي لمواجهة الحالة السياسية الراهنة وإخراج البلاد والشعب من أزماتهما الخانقة على مستوى الفقر والبؤس والديمقراطية وإعادة مصر إلى قيادة العالم العربي.
موقف الإخوان "البراغماتي" والقوى السياسة الناهضة بسؤال الأمس في مسيرة إصلاح الدولة المصرية كان من الممكن فهمه لو اجترح الإخوان بديلا من داخلهم، ومع أن المطلوب ليس اتخاذ موقف من البرادعي كشخص وإنما اتخاذ موقف من الخطاب التغييري الذي يطرحه البرادعي والذي كان من الممكن أن تتوحد حوله قوى التغيير، إلا أن إسهام مصالح الجماعة في تضخيم دور البرادعي قد يؤول بالحالة البرادعية إلى تراخٍ مبكر قبل أن تصل حدّ البلوغ.
حوار الدكتور محمد البرادعي رئيس الجمعية المصرية للتغيير مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر ودعوتهم إلى الانضمام إلى الجمعية، وذلك بعد زيارته لمدينة سنورس في الفيوم "مدينة الرئيس مبارك" ضمن حملته للمطالبة بتعديل الدستور، والتفاف الآلاف من أنصاره حوله، وسط دعم جماهيري واضح من مناصري الإخوان، أثبت أن هناك قدرا كافيا من المساحة المشتركة بين الطرفين، وقد استمهل الإخوان تحديد موقفهم من جمعية البرداعي كي يعرفوا وجهة نظر البرادعي في القضايا المطروحة على الساحة المصرية، وفيما بعد ظهر اتفاق الطرفين حول ضرورة إصلاح النظام وإجراء تغييرات فيه، وإن كان هناك اختلافات في وجهات النظر حول أمور أخرى.
بالتأكيد لن تغدو مصر ديمقراطية على الطريقة الغربية بين يوم وليلة، بل إن هذا تجاوز على الواقع الاجتماعي السياسي والاقتصادي لدولة من العالم الثالث، وعليه فإن الإسراف في الأمل يقابل بمخاوف من احتمالية ازدياد المشهد تأزما في حال جرت الانتخابات المصرية دون تحقيق مستوى أدنى من الوعود التي طالب بها البرادعي رغم أنها مطالبات خارج القنوات الدستورية جاءت من باب الضغط ولربما لتتلقفها الدول الغربية للضغط على مصر لجعلها حقائق، وقد أشار إليه الرئيس مبارك في خطابه الأخير، غير أن ما يخشاه مراقبون على الحالة المصرية هو حصول ارتداد عكسي لمطالب المعارضة، كونها مطالب لا تؤمن بالتدرج والحوار واستغلال ما هو موجود لتحقيق تعديلات وتغييرات في بنية النظام من الداخل، وهذا يعكس حالة من عدم الثقة.
ولعل الضمان الوحيد للتعاطي مع هذه المطالب بشكل عقلاني هو مدى نجاح حركة المعارضة بتحويلها إلى حالة شعبية عارمة تنخرط فيها جميع القطاعات والنخب وعلى رأسهم حركة الإخوان بوصفها الأكبر والأكثر تأثيرًا، لكن هذا لا يعني أن المعارضة هي اللاعب الرئيس في مصر، فقد جرب المصريون المعارضة واطلعوا على تجارب المعارضة في السلطة، وكيف تأزمت الدول، وهذا ما يؤكد أن قرار الناخب المصري سيتغير في اللحظات الأخيرة انحيازا لمصالح مصر وأمنها واستقرارها أولا ومن بعدها التغيير.
في مواجهة أي إخفاق يبدو البرادعي أكثر تحسبا من أنصاره الذين التفوا حوله من النخبة المصرية، إذ ما لبث أن حذر من ارتفاع حجم التوقعات من حراكه، فدعا إلى مقاطعة الانتخابات في مصر، معتبرا أنها مجرد "ديكور ديمقراطي" في نظام قائم على حزب واحد، وشدد في حوار نشرته جريدة "القدس العربي" اللندنية، على أنه لن يشارك في العمل السياسي أو الانتخابات ضمن الشروط الحالية، لأنها ستؤدي دائما إلى فوز ساحق للحزب الحاكم.
ورفض البرادعي الانتقادات التي توجه إليه لكثرة سفرياته للخارج وقال إن لديه مسؤوليات وارتباطات دولية لا يستطيع التخلي عنها، مع الاستمرار في القيام بدوره في الداخل، مذكرا بأنه ليس قائدا، بل مطالب بالتغيير ومشارك فيه، وأنه كلما أعطاه الشعب الزخم والصلاحية بالتوقيع على البيان استطاع أن يقوم بدوره، مشيرا إلى أنه يريد أن يرى مئات الآلاف وملايين المطالبين بالتغيير .. وهذا لم يحدث بعد.
وأكد البرادعي في حواره على أن الجمعية الوطنية إطار شعبي وليست حزبا ولا تملك مقار أو تمويلا، وتقوم على آلاف المتطوعين الذين يجمعون التوقيعات على البيان، ولم ينتخب أحد فيها، ويجب ألا تشخصن أو يتحكم فيها شخص واحد، وأنه من يريد أن ينسحب منها فليفعل ذلك طالما أن هذه هي قناعاته.
واعترف بأنه قريب فكريا من حزب الوفد، مستدركا بأنه إذا ما قرر دخول الانتخابات فلن يفعل ذلك إلا عن طريق حزب خاص به، وأنه لن يتقدم قط إلى لجنة شؤون الأحزاب الحالية حتى يحصل على رخصة حزب سياسي.
إلا أن اللافت في آراء البرادعي تخوفه من أن يتركه أنصاره في الشارع وحيدا فردا على سؤال متى يقوم بقيادة مظاهرة للتغيير، وقال: إنه سيفعل ذلك عندما يضمن أنه سيخرج للمظاهرة وخلفه 100 ألف، وليس 100 شخص.
والمهم في آراء الرجل تأكيده على ضرورة ألا يكون للكنيسة دور سياسي، مطالبا في الوقت ذاته بإطلاق حرية بناء الكنائس، معتبرا أن بيوت الله لا يتم بناؤها استنادا لعدد المؤمنين فحسب، مستدركا أنه لم يطالب بإلغاء المادة الثانية من الدستور المتعلقة بأن الدين الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع، قائلا: "مصر دولة إسلامية ومن حق 90 في المائة من السكان في مصر يدينون بالإسلام أن يكون هناك احتراما لرأيهم.
من حيث شكل المخلص بدا "البرادعى" وكأنه حامل كل صفات "المخلص النموذجى" الذي رسمته ملامحه المصرية الصميمة، فلو ارتدى الرجل "الجلابية البلدي" والطاقية ولف "اللاسة" على رقبته وسار فى شوارع القاهرة فلن يفرقه أحد عن أي مواطن مصري جاء من قلب الصعيد أو من أطراف الدلتا للعلاج من البلهاريسيا فى مستشفى قصر العيني الفرنساوي، إضافة إلى ملامحه الطيبة، فقد حمل معه براءة سياسية ونيات طيبة في التغيير لا يحملها إلا "المخلِّصون" في رأي أنصاره.
وفي عين الأنصار يقدم الرجل على أنه أدار أكبر وأخطر مؤسسة فى العالم، ولذا لن يعجز عن إدارة نظام يحكم مصر، لكنه ككل "المخلِّصين" قد يجهل ــ بحسب رأي خصومه ــ أن جماعته هم الذين سوف يخذلونه كما خذل بعض الحواريين المسيح، وسوف تحرق سريعا "صورة المخلِّص" من أجل الحصول على رغيف خبز وكوب حليب ومقعد على كرسي دراسة في مدرسة في أقاصي الريف.
صحيح أنه لا بد أولا لـ "المخلِّص" ــ أي "مخلص" ــ من تغيير الظروف التي تحيط بمن أتى ليخلصهم، لكن البرادعي لا يقوى على تغيير ظروف من حوله، وقد يزداد وضعهم سوءا في ظل دولة ونظام يملك كل شيء.
فبالنسبة لملايين المصريين بدا الرجل عند عودته وكأنه رمز الأمل في التغيير بكل معنى الكلمة .. وذهب البعض للقول: "لقد استيقظت مصر"، لكن كاتبا من مثل فهمي هويدي حذر من "المبالغة في الحفاوة بالبرادعي إلى الحد الذي يكاد يضع الرجل في مقام المخلص للوطن" وتابع "إنه من بين التفسيرات الأخرى للترحيب بالبرادعي أن "فريقا من الناس استشعروا مهانة حين وجدوا أن فكرة توريث الحكم في بلد بحجم وقيمة مصر أصبحت متداولة بغير حرج"، أو أن "البعض وجدوا أن النظام في مصر حرص على التلويح طوال الوقت بأنه لا بديل عنه سوى الإخوان المسلمين وحين رأى هؤلاء أن هناك رمزا لا هو الحزب الوطني (الحاكم) ولا هو الإخوان سارعوا إلى الاصطفاف وراء مبايعته".
ختاما، في تاريخ مصر القديم، أمران يجب ألا يمس بهما أي فرد وهما: سلطة الحاكم، والخبز، ولعل قدرة الدولة على تأمين العيش وسبله، قد تحيل كل ما يقوم به البرادعي على أساس أنه بداية الطريق لمواجهة مع النظام بشكل مباشر، مما يعقد الراهن المصري ويسهم في تأزيمه وليس حل معضلاته.
[email protected]