من يقود بوصلة النص الديني؟
أثرنا سؤالا حساسا ومهما للغاية في رسالة الأسبوع الماضي. ولقد كتب لي بعض القراء مستفسرين إن كنت حقا سأحاول الإجابة عنه في هذه الجمعة المباركة. لقد كانوا محقين في استفسارهم. السبب واضح. نحن كبشر كثيرا ما نتجنب الغوص في الأمور والمسائل الفكرية العويصة ونترك حلها وتفسيرها وقراءتها للآخرين.
وهذا معناه أننا نمنح القيادة في المسائل الفكرية التي تمس وجودنا الإنساني على هذه الأرض ومصيرنا في العالم الآتي لغيرنا. لماذا نقبل أن يدير غيرنا بوصلتنا الفكرية والعقائدية ولا نسمح للآخرين أن يتدخلوا أو يديروا شؤوننا الدنيوية؟ أي امرأة، على سبيل المثال، ترضى أن تلبس أو تنبش نساء أخريات بمجوهراتها؟ وأي رجل يرضى أن يدّعك أو يقلب آخرون القميص الذي يلبسه أو البدلة التي يرتديها؟ إذا كنا نحرص هكذا على مقتنياتنا المادية كم بالأحرى علينا أن نحرص على كتابنا السماوي، القرآن الكريم.
القرآن هو حصتنا في هذه الأرض، منحه الله لنا من خلال رسوله، فبأي حق يأخذه الآخرون منا. كل واحد منا يملك القرآن برمته، لأنه يمثل الرحمة الإلهية. كل مؤمن بهذا الكتاب يملكه. أنا أستغرب كيف يتنازل الناس عن أغلى وأعظم وأقدس شيء يملكونه في هذه الدنيا للآخرين ولا يتنازلون عن مقتنيات شخصية قد يأكلها العث وتعبث بها عوادي الزمن. عندما نقبل أن يقرأ الآخرون لنا القرآن أرى ذلك - من وجهة نظري المتواضعة - أننا نمنحهم حصتنا في هذه المعجزة وندير ظهورنا لما كنا سنكتشفه لأنفسنا من أمور أعظم شأنا وأكثر استجابة لمتطلباتنا في الدنيا والآخرة لو اعتمدنا على ما منحنا إياه الله سبحانه وتعالى من مقدرة عقلية على التمييز والقراءة والتفسير ولا سيما في عصرنا هذا. كلنا نقول إننا سنأخذ بما يوافق القرآن ونتنحى عما يعارض كتاب الله. هذا قول صحيح لا غبار عليه. القرآن نص مقدس ويجرم من يحاول العبث بالنص. النص أتى ليبقى بقاء الكون. لكننا قلما نشعر أننا بالتشبث بقراءة مستقاة من آليات سلطوية ومعرفية نغير بوصلة النص لأغراض محددة وأننا بذلك نجرم بحق النص مثل الذي يحاول تحريفه. النص الديني المنزل هو بمثابة الكعبة التي نصوب بصرنا نحوها، والله منحنا العقل، البوصلة التي بإمكانها قيادتنا إليها. المشكلة هي أننا لا نثق ببوصلتنا ونمنح القيادة للآخرين. ماذا يحدث عندما نرمي بوصلتنا جانبا ونتبع بوصلة الآخرين في دأبنا للوصول إلى الجهة التي يحددها لنا النص؟
هذه بعض الأمثلة من التاريخ القديم والحديث. الفتنة الكبرى في عهد عثمان والفتنة الكبرى في عهد علي وبنيه. من بإمكانه إخراجهما وقراءتها وتفسيرهما خارج نطاق ما ذكرناه آنفا؟ ألم تزعزع هاتان الفتنتان أركان الدين لأن الناس تبعت أفرادا وأفواجا ما قرأه لها الآخرون؟ وهناك الكثير الكثير من الفتن في التاريخ العربي والإسلامي سببها ليس النص على الإطلاق بل طريقة الوصول إليه. النص، الذكر، باق كما هو، وسيبقى كذلك مدى الدهر. الخوف والخشية ليسا من النص كما يحاول بعض الغربيين والشرقيين من المعادين للإسلام تصويره لنا. الخوف والخشية تأتيان من الطريقة والأسلوب الذي نحاول به الوصول إلى النص.وهكذا نرى أن ما كانت بوصلة محتكري السلطة والمعرفة تراه موافقا للقرآن قبل عقود أو سنين صار اليوم معارضا له. كم من داعية غير بوصلته بتغيير الزمان والمكان؟ انظر إلى الموقف من المذهب (الاثنا عشري). بوصلة فكرية تعترف به وتراه موافقا للقرآن وبوصلة أخرى تتنحى عنه لا بل تكفره؟ وانظر إلى الموقف من الغناء والموسيقى وكذلك موقف البوصلات المختلفة من بعض المقاومات الإسلامية، منها من يراها جهادا ومنها من يراها إلحادا.
وإلى اللقاء