هل هناك قراءة مقدسة لنص مقدس؟
هذا سؤال مهم، وأهميته ذات دلالات كبيرة ومؤثرة. لماذا؟ لأن البشر يضفون القدسية على أمور كثيرة، وإن كان النص المقدس يرفض ذلك رفضا قاطعا. والقرآن النص المقدس الوحيد الذي لا يقبل لا من قريب ولا من بعيد إضفاء خاصية القدسية الربانية على أي نص خارج الوحي أو على بشر مهما كان شأنه أو مقامه ومن بينهم الرسول الكريم: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" (آل عمران). وعيسى بن مريم، الذي يؤلهه المسيحيون، "قال إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا" (مريم). وبعض المسيحيين من الكاثوليك مثلا يضفون خاصية القدسية على مريم بنت عمران ويذهبون بعيدا لدرجة الاعتقاد أن ولادتها، كولادة عيسى، كانت بلا دنس.
إن كان أصحاب النصوص المقدسة من المسيحيين واليهود يضفون القداسة على الأشخاص والقراءات، فإن ذلك مرده لأن النصوص التي بين أيديهم قد تمكنهم من ذلك. انظر إلى الهالة "المقدسة" التي يسبغها المسيحيون الكاثوليك على حامل منصب بابا روما في الفاتيكان، مثلا، وكيف أن قراراته وأقواله لها عصمة تفرض قبولها وكأنها منزلة رغم أننا في العقد الثاني من القرن الـ 21.
وهل استطاع المسلمون التخلص من آفة تقديس الأشياء والأشخاص رغم أن النص يقول أن لا قدسية إلا لله وقرآنه؟ سنجافي الحقيقية إن قلنا نعم. لماذا؟ لأن إضفاء القدسية على أشياء وأناس خارج ما أتى به النص المقدس خاصية بشرية. بمعنى آخر، نحن البشر من الضعف بمكان، حيث نهرع إلى أي شخص أو شيء لنجدتنا من ضعفنا أمام معجزة الكون التي تحيط بنا من كل جهة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ليس من مصلحة السلطة والمؤسسة الدينية التشبث بالنص المقدس. السلطة دائما تبحث عما يوائمها من النصوص وما يرضيها من القراءات. وهكذا نرى أننا جميعا تحت وطأة القراءة وليس بركة النص المقدس. بمعنى آخر، التفسير يأتي قبل النص المقدس، بينما يجب أن يكون النص فوق أي تفسير أو اعتبار. والتفاسير غالبا ما تأخذنا في متاهات من المستحيل على الشخص العادي الخوص فيها. والتفاسير غالبا ما تكون مطولة وكثير منها أصعب فهما واستيعابا من النص ذاته. والمطلعون على التفاسير يدركون كيف أن نصا مقدسا من بضع كلمات أو جمل يلحقه تفسير من آلاف الكلمات.
ولنعد معا إلى السؤال الذي استهللنا به هذا المقال. كيف يجوز للقراءة الارتقاء إلى درجة القدسية شأنها شأن النص المقدس، بينما الشخص الذي اصطفاه الله واسطة لنقل الوحي إلينا ينأى بذلك عن شخصه الكريم ونفسه؟ إن منحنا القراءة خاصية القداسة، فإننا سنصبح بمثابة أسرى لا بل رهائن في أيدي مفسرين استجابوا لمتطلبات زمانهم ومكانهم أو مفسرين همهم رضا السلطة والمؤسسة. بمعنى آخر أننا نلغي زماننا ومكاننا ونضع أنفسنا ومجتمعنا في زمان ومكان غير موائم. وبمعنى آخر، أننا نتقهقر.
النص المقدس، مثله مثل الكائن الحي، يوائم كل زمان ومكان بحاله وصفاته وخصائصه. بمعنى آخر، لا يجوز جلب خصائص زمان ومكان انقضى وفرضها على زماننا ومكاننا. لماذا؟ لأن الدنيا تتبدل، وهذه مشيئة ربانية. والمشيئة الربانية تتطلب منا أن ننظر إلى القراءة السابقة بمنظار زمانها ومكانها وأن زماننا ومكاننا يتطلبان قراءة مختلفة. والقراءة، شأنها شأن أي كائن حي آخر، تختلف خاصيتها وخصائصها من زمان إلى زمان ومكان إلى مكان. ألم يدعنا الله إلى أن نتعلم من الكائنات الحية القريبة منا: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت" (الغاشية). للنظر إلى الإبل إذا. هل يجوز أن نستخدمها ونحبها كما كان الوضع في القرون الغابرة؟
وأصحاب القراءات هذه بشر مثلنا. لم يتفق المسلمون على قراءة واحدة حتى في عهد الصحابة وقتلوا ثلاثة من الخلفاء الراشدين بسبب اختلافاتهم بينهم في كيفية قراءة النص. هل يجوز وضع زماننا ومكاننا في حقيبة ورميها في زمان ومكان آخر، أم علينا جلب الأزمنة (القراءات) إلينا؟
إننا نغمط حق النص المقدس عندما نفرض عليه قراءة محددة وقد نثلم قدسيته عندما نفرض قراءة من زمان ومكان غابر عليه وعلى زماننا ومكاننا. النص المقدس، كما قلنا سابقا، لا يتبدل تبديلا. نحن الذين نتبدل، وهذه مشيئة إلهية. وبما أن النص إلهي فإنه لا بد أن يستجيب لتبدل زماننا ومكاننا ضمن الحكم الإلهي.
وإلى الأسبوع المقبل أترككم في أمان الله.