بمناسبة الذكرى 50 لتأسيس «أوبك».. النفط بين «مخلفات الشيطان» و«نفط العرب للعرب» (2)

قبل بداية هذا المقال لابد من التنويه إلى أن ''صندوق أوبك للتنمية الدولية'' (أوفيد)، والذي يترأسه الدكتور سليمان جاسر الحربش، يعد من أهم إنجازات ''أوبك''. ولم يتم ذكره بين الإنجازات في المقال الماضي لأنه لا يتربط مباشرة بإنجازات ''أوبك'' في أسواق النفط العالمية، والتي كانت محور المقال. ويهدف الصندوق إلى إلغاء الفقر في الدول النامية عن طريق التعاون بين هذه الدول وتمويل المشاريع التي تحقق تنمية مستدامة، بما في ذلك مشاريع البنية التحتية من طرق وجسور ومحطات كهرباء وغيرها. ولمزيد من المعلومات عن الصندوق يمكن مراجعة موقعه على الشبكة العنكبوتية www.ofid.org.
ذكر في المقال الماضي أن فكرة ''أوبك'' أقدم من وقت ولادتها بنحو 20 عاما، وكان من فكر فيها هو المفكر والفيلسوف ووزير النفط الفنزويلي ألفونسو بيريز، والذي كان يحمل هموم العالم الثالث على كاهله، كونه مهتما بشؤون التنمية. وكان وزيرا للتنمية في فنزويلا في أواخر الأربعينيات. وهو الذي رأى أحلامه ببناء منظمة نفطية عالمية تقف في وجه الدول الغربية وتهتم بالتنمية الاقتصادية في كل أنحاء العالم الثالث تتلاشى أمام عينيه، ورأى كيف تحاك المؤامرات العالمية من أجل النفط، ورأى الفساد الإداري ينتقل بين رفاق الدرب كمرض معد، فاعتزل السياسة، وقام بدفن نصف سيارته وهي مقلوبة على رأسها بجانب باب بيته، وهو القائل ''النفط فضلات الشيطان''. ومنذ ذلك اليوم، يدور حوار هادئ بعيداً عن عيون وسائل الإعلام يتعلق بـ ''أوبك''، وماهيتها، وهل حادت عن دربها، وما يجب أن تكون. فالبعض ما زال يرى أنه تم ''اختطاف'' أوبك'' و''تحييدها'' عن دربها و''تمييع'' أهدافها. إلا أنه يمكن الجزم، حتى لو سلمنا بصحة هذه الادعاءات، أنه ما كان لنا أن نتحدث عن ''أوبك'' اليوم في عيد ميلادها الـ 50، لو تبنت الخط الذي أراده لها مخترعها ومصممها ألفونسو بيريز. بعبارة أخرى، لو اختارت ''أوبك'' طريقا غير الطريق الذي سلكته لانتهت منذ ومن بعيد. ويذكر البعض أن ألفونسو توقع ما آلت إليه فنزويلا الآن، حيث قال إنه بعد عشر سنوات من الآن، أو ربما بعد 20 سنة، سترون أن هذا النفط لن يجلب لنا إلا الدمار.
لم تلق أفكار ألفونسو بيريز آذانا صاغية في البداية بسبب قوة الشركات وأتباعها في فنزويلا من جهة، وبسبب الوضع السياسي والانقلابات المستمرة في فنزويلا. إلا أن بروز دور النفط في الشرق الأوسط ومنافسته للنفط الفنزويلي أوجد أرضا خصبة لأفكار ألفونسو بيريز بين صفوف السياسيين الفنزويليين. وما زاد الطين بلة بالنسبة لهم أنهم استطاعوا الضغط على شركات النفط العالمية وفرضوا ضرائب إضافية، كما أجبروا الشركات على مشاركتهم في الأرباح مناصفة. إلا أن الوضع في الشرق الأوسط كان مختلفا، حيث إن تكاليف الإنتاج أقل، والضرائب منخفضة جداً، وليس هناك مشاركة في الأرباح. هذا يعني أن النفط العربي والإيراني أصبح يهدد النفط الفنزويلي بسبب انخفاض تكاليفه، وكان الحل هو ''توعية'' حكومات هذه الدول، وإقناعها بضرورة اتخاذ الخطوات نفسها، ومحاولة وضعها كلها تحت مظلة واحدة، مظلة الأقطار المصدرة للنفط. وجد ألفونسو بيريز آذانا صاغية في بعض الدول النفطية، خاصة من مسؤولي النفط المتعلمين من أمثال الشيخ عبد الله الطريقي، رحمه الله، ووجدوا صدا من حكومات أخرى خوفا من بريطانيا. وتم تأسيس ''أوبك'' على إثر ذلك. إذاً، كان هناك فكرة كبيرة عند ألفونسو لم ينجح في تطبيقها لمدة 20 عاماً حتى توافقت مصالح السياسيين في فنزويلا الخائفين من منافسة النفط العربي مع مصالح الحكومات العربية التي كانت تهدف إلى إيقاف هبوط أسعار النفط وزيادة إيراداتها، كما توافقت مع أفكار عبد الله الطريقي الطامحة إلى قيام بلده باستغلال ثرواته بنفسه، والحصول على عائدات النفط كاملة، والتخلص من سيطرة شركات النفط العالمية، والتعاون مع الدول العربية في هذا المجال، وجعل مقولته ''نفط العرب للعرب'' واقعا ملموساً. كانت فكرة ألفونسو أكبر من هذه الدول، وأكبر من إمكاناتها، كما أن مصالح تأسيس ''أوبك'' كانت مختلفة من اليوم الأول، ولكن الهدف في النهاية كان واحدا: الوقوف صفا واحدا أمام أطماع شركات النفط الأجنبية. ويمكن القول إن دوافع ألفونسو بيريز كانت فلسفية ـ عالمية، ودوافع حكومته مالية، ودوافع الحكومات الأخرى مالية بحتة، بينما كانت دوافع الشيخ الطريقي وطنية ـ قومية. كل هذه الأمور حاولت صياغة وتشكيل المولود الجديد، ''أوبك''، الأمر الذي قد يفسر أحد أسباب تعثر ''أوبك'' في طفولتها. كما قد يفسر انطلاقها ونموها في اتجاه معين، بعد تركها لأفكار ألفونسو بيريز والطريقي. ويفسر أيضا الحوار الذي يتأجج بين حين وآخر عن ''أوبك''، وماهيتها، وهل حادت عن دربها. لم ينجح ألفونسو بيريز والطريقي في تشكيل ''أوبك'' بالطريقة التي يريدانها لسبب بسيط: كان الحافز المالي أقوى بكثير من أفكارهم التي تتطلب جهدا وعملا وكثيرا من المشقة.
لن أتحدث عن الرجل العملاق عبد الله الطريقي الذي سبق عصره بعقود من الزمن لأن هناك من هو أقدر مني على الكتابة عنه وأكثر معرفة به، خاصة الذين كتبوا كتبا ومقالات عنه، والذين أرجو منهم الكتابة عنه بمناسبة عيد ميلاد أوبك الـ 50. مازال عبد الله الطريقي مجهولا لدى عامة الشعب وعند الجيل الناشيء بالذات. أرجوكم... حدثونا عن عبد الله الطريقي.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الشركة التي يعمل فيها

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي