الاقتصاد الإسلامي مُنْجَزٌ تام نسعى لاكتشافه لا إلى تكوينه
كثيرون هم الذين يتجاوزون الموضوعات الاقتصادية، وما تتضمنه من مضامين قد تكون مبهمة، أو إحصاءات جافة، وأنا منهم، لجهلنا بعلم الاقتصاد، فنأخذ ''الزبدة'' ونهرب .. ونحن نخبئ كثيرا من الأسئلة! خاصة أن جلّ النظريات الاقتصادية الغربية، العلمية منها والأيديولوجية، في معالجتها لشؤون الثروة وتلبية الحاجات المادية للأفراد، إنما تنطلق على قاعدة: دوام استمرار العملية الاقتصادية لا بد له من دوام وجود المشكلات! وهذا أمر طبيعي، في رأيي، كونها نظريات من وضع الإنسان نفسه الذي لا تنتهي مشكلاته الاقتصادية!
ولكن، إذا عدنا للمصادر الإسلامية، لوجدنا الكُتّاب المسلمين، على اختلافهم، يتفقون على أن السبب في تخبط النظريات الغربية في معالجتها للاقتصاد الإسلامي إنما يعود إلى اختلاف الأسس الفكرية والمنهجية، التي تنطلق منها، إذ اقتصرت على المفاهيم التي تمَّ استنباطها من داخل المجتمعات الأوروبية نفسها! ممَّا ولَّد جملة إرباكات نظرية ومنهجية، منها: إدراج تاريخنا ضمن السياق العام للتاريخ الأوروبي! مما أفقده، أي نظامنا الاقتصادي، خاصيته وفرادته، فتشتتتَ بين قائل: بنمط إنتاج إقطاعي، أو نمط إنتاج آسيوي، أو نمط إنتاج خراجي.. واتجاهات أخرى حاولت الجمع بين جميع هـذه العناصر والمفاتيح النظرية، جاعلة من التجربة الاقتصادية الإسلامية مجرّد ''تعايش'' لعناصر تنتمي إلى مختلف أنماط الإنتاج الّتي مرّ بها المجتمع الأوروبي! وبالتالي تحولت المفاهيم التي شكلت النظرية الاقتصادية الغربية، كمفهوم ''الإنسان الاقتصادي''، ومفهوم ''البنية التحتية''، ومفهوم ''قوى الإنتاج''، رغم أهميتها، إلى مسلمات نظرية تركت أثراً بيناً في واقعنا، أدى إلى استبعاد كليات الاقتصاد الإسلامي، وبالتالي إلى جمود فكري، والدليل على ذلك أن كثيرين من الاقتصاديين الإسلاميين تبنوا في كتاباتهم أحد النموذجين: الرأسمالي أو الاشتراكي، أو دمجهما بعضهما ببعض، في محاولة لتركيب الاقتصاد الإسلامي على شاكلتهما، أو لإظهاره كحالة ممكن أن توفق بينهما، وهذا ما دلت عليه بعض عناوين كتب القرن الماضي، من مثل: اشتراكية الإسلام، أو الإسلام والرأسمالية.. وغيرها!
ولكن، المسألة الاقتصادية في الإسلام تختلف تماماً، لعلاقتها الوثيقة بالدين الذي يعني لزوم الانقياد لمجموعة الأصول العامة التي نستخرجها من القرآن الكريم والسُنَّة، ولا ضير إذا عبّرنا عنها بمصطلحات العصر، كمبدأ الملكية، ورأس المال، والعمل والإنتاج، والادخار والاستهلاك، لأننا أمام اقتصاد منجز تـمّ وضعه، نسعى إلى اكتشافه لا إلى تكوينه، كما حال المذاهب الأخرى، والدليل على أنه منجز ومستقل، تحريمه للربا الذي هو قاعدة أساسية لنجاح الاقتصادات الأخرى! لا بل ''الاقتصاد الإسلامي'' لا يستقل عن جوانب الحياة الأخرى، بل يتفاعل ويتداخل معها، لانبثاقها من معين واحد هو: عقيدة التوحيد، وأروع مثال على ذلك ما نجده جلياً في ''الكتاب'' (أو الصحيفة) الذي وضعه الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ عشية هجرته إلى المدينة، وما نتج عنه من أخلاق اقتصادية بيَّنت حقوق وواجبات المهاجرين والأنصار إزاء بعضهم بعضا، وإزاء مجتمع المدينة ككل بمن فيهم يهود الذين شكلوا فئة في ذلك المجتمع، وكذلك إزاء الدولة الإسلامية الناشئة.
لا بد لنا إذاً من أن نُعير الاهتمام للعلاقة بين الاقتصاد وسائر الأجزاء داخل الصيغة الإسلامية العامة، فالعملية الاقتصادية في الإسلام، وإن كان لها طابع مادي كما لأي نشاط اقتصادي وضعي، إلا أنها مقرونة بالطابع التعبدي، الذي يتحكم بالمنهج الذي يؤطر العملية الاقتصادية، وهذه الصيغة لا تنفصل عن المستوى السياسي كذلك، فالدولة هي التي تنظم العملية الاقتصادية في السوق، وإذا كان الدين منهجا شموليا لحياة الإنسان وتفرعاتها، فإن الاقتصاد إنما يدرس جانباً واحداً من هذه التفرعات، وبالتالي هو يعالج جزءًا من مجال الدين.
إذاً، المذاهب الاقتصادية تختلف باختلاف أصولها الفكرية، فإذا كان الاقتصاد الماركسي، في رأي الماركسيين، علماً نتيجة الحتمية التاريخية، فإن الاقتصاد الإسلامي لا يزعم لنفسه الطابع ''العلمي'' البحت، كما أنه ليس مجرداً عن أساس عقائدي معيّن ونظرة رئيسة للحياة والكون كالرأسمالية، بل يمتاز عن بقية المذاهب الاقتصادية الأخرى بإطاره الديني العام، ممّا ينتج عنه ذلك الترابط العضوي ما بين الدين والدنيا.
وإذا أردنا استكشاف الحلول للمشكلات الاقتصادية التي نعانيها، لا بد لنا، كما يقول الدكتور إبراهيم دسوقي في كتابه ''الاقتصاد الإسلامي''، من استبعاد ''الأخذ بنماذج التنمية الاقتصادية المعمول بها في دول الغرب الرأسمالي أو دول الشرق ''الشيوعي''، إقراراً لمبدأ أساسي أكّدته التجارب التاريخية .. وهو أن حلول مشكلات التخلف الاقتصادي والاجتماعي لا يمكن أن تُصنع في الخارج''، خاصة، وأكرر هنا، أن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد منجز تـمّ وضعه، نسعى إلى اكتشافه لا إلى تكوينه.
وأختم بالقول: إن أخطر النتائج التي عانيناها، ولا نزال، جراء أخذنا النموذج الاقتصادي الرأسمالي، بعد أن أراحنا الله من النموذج الشيوعي، هي: إهمال الناحية الروحية في الإنسان، كون هذا الاقتصاد ركز فقط على الربح، غير المُقيّد بأخلاق أو دين، فأغرقنا بالسلع الكمالية، لا بل ربما غير الضرورية لحياتنا.. فانتصر على قاعدة: تلبية ''غريزة حب التملك'' في الإنسان، مما جعلنا، من حيث ندري أو لا ندري، وقد انغمسنا في العمل أكثر فأكثر لنمتلك تلك السلع، على حساب تنمية حاجاتنا الروحية والأخلاقية! بينما الاقتصاد الإسلامي، في تحقيقه منظومة القيم التي يرتكز إليها، يجعل للروح مكاناً مرموقاً، لا بد من الاهتمام بها إذا أردنا الوصول إلى التوازن النفسي، وذلك من خلال التوازن فيما بين المادة والروح.