«الواسطة» وآثارها المدمرة
''الوساطة'' أو ''الواسطة'' آفة اجتماعية متجذرة في ثقافة المجتمعات العربية عموماً. ولا أقصد بالوساطة التدخل بين طرفين لتحقيق المصلحة أو إحلال الوئام محل الخصام، ولا شركات الوساطة في التعاملات التجارية كالأسهم والعملات، وإنما ''الوساطة'' المقصودة هنا هي تلك الممارسة الشائعة في بلداننا العربية التي يُطلق عليها – أحياناً - ''فيتامين واو''، أو ''الكوسة'' كما هو شائع في مصر، وهي عبارة عن كسر الأنظمة وتحطيمها من أجل تقديم المنفعة لشخص معين، أو تقديم مصلحة مؤسسة أو شخص على آخر. وأغراضها متعددة تبدأ بأمور بسيطة، كالإعفاء من تسديد مخالفة مرورية، أو تفضيل في الحجز على رحلة طيران مزدحمة، إلى مخالفات كبيرة، كمنح الأسبقية للحصول على وظيفة معينة مع وجود من هو أكثر كفاءة واستحقاق، أو الحصول على امتياز أو مناقصة أو خدمة يتطلب الحصول عليها انتظاراً طويلاً ومنافسة شرسة، وقد تأخذ أشكالاً أخرى، كتمكين مريض للحصول على سرير في مستشفى معين، مع الاعتذار لمريض آخر أكثر حاجة وأخطر مرضاً.
ويبرر البعض ممارسة ''الواسطة'' بأنها تبادل منافع ''بريئة'' لا يأثم على فعلها الفاعل، بل هي سمة من سمات الرجولة، ودليل على النجاح الاجتماعي، وعلامة من علامات ''حب الخير للناس''، فهذا يقدم خدماته في مجال عمله وذاك يبادله المنفعة بتقديم خدمات أخرى في قطاعات أخرى يمتلك بها بعض النفوذ أو يعرف بها بعض المسؤولين.
وعلى الرغم من أن الشفاعة الحسنة لا ضرر منها، إلا أنها لا تبقى ''حسنة'' في كثير من الأحيان، بل تغلف بهذا المصطلح اللطيف والاسم المقبول الذي يستخدمه البعض لتبريرها في نفوسهم ومنحها الشرعية أو إضفاء سمة الخير عليها. ولكن لا ينبغي أن ننكر أن ''التزكية الأمينة'' مفيدة للاطمئنان على وجود الكفاءة المطلوبة وتوفر المقدرة المناسبة ووجود الأمانة الضرورية لأداء عمل أو تحمل مهمة أو مسؤولية عامة.
والمشكلة – أيها الأعزاء - أن الوساطة لا تخلو من آثار سلبية جسيمة، قد لا يستوعبها البعض، أو لا يشعر بخطورتها وآثارها المدمرة على المدى البعيد، ومن تلك الآثار السلبية ما يلي:
1) ضعف الانتماء الوطني نتيجة الإحساس أن الإنسان لا يستطيع الحصول على حق (عمل أو خدمة أو منحة) يمتلك الأحقية والمؤهلات اللازمة لها، في حين يحصل عليها شخص آخر أقل كفاءة وأقل مقدرة، قد لا تتوافر لديه شروط الحصول عليها. فعدم وجود العدالة والمساواة في الحقوق تجعل بعض الناس يشعرون بأن معاملة ''الوطن'' لا تخلو من التمييز، لأن هناك تفضيلا لأناس أقل كفاءة واستحقاقاً. وهذا يسهم في ضعف الانتماء الوطني.
2) يؤدي انتشار الوساطة أو الاعتقاد الخاطئ بشيوعها إلى الكسل وعدم الجدية في العمل، مما يقتل الطموح لدى بعض الشباب لمجرد اعتقادهم الوهمي بأن كل شيء يعتمد على الوساطة والعلاقات، وخاصة الحصول على عمل أو الترقي في الوظائف القيادية.
3) هناك من يرى أن آثارها السلبية امتدت إلى طلاب الجامعات الذين لا يرون في الاجتهاد أهمية، لاعتقادهم بأن الحصول على الوظيفة لا يرتبط بالأداء أو التحصيل.
4) إن شيوع ''الواسطة'' قد يؤدي إلى ارتكاب جريمة الرشوة لإنهاء المعاملات بسرعة.
5) تسهم الوساطة في تكريس الطبقية في المجتمع، فالفئات الاجتماعية التي حظيت بالتعليم وتقلد كثير من أفرادها مراكز وظيفية قيادية أو تمكنت من صنع الثراء واكتساب مكانة اجتماعية مرموقة، تستطيع تحقيق المزيد (والمزيد) من المكاسب والحصول على الكثير من الخدمات بأنواعها كافة، كالخدمات الصحية والتعليمية، بل بعض المكاسب الاقتصادية، مما يزيد الفجوة الاقتصادية بين الفئات السكانية.
6) ربما تسهم الوساطة في نشوء مشاعر الحقد على المجتمع وتراكم الشعور بالنقمة، ومن ثم تتولد الرغبة في القيام ببعض الأنشطة العدائية لأفراد المجتمع ومنشآته.
7) تشجع ضعفاء النفوس من الموظفين على المماطلة في إنجاز المعاملات وتأخيرها بقصد، لفرض الحاجة لطلب تدخل أحد الأطراف ''للتوسط''، مما يكسبه مكانة وأهمية لدى الآخرين.
ويبقى السؤال: كيف يمكن الحد من الوساطة؟ وتخفيف آثارها المدمرة على المجتمع؟ لا شك أن تأصلها في ثقافة المجتمع يتطلب جهوداً حثيثة على مختلف المستويات، بدءاً بالأسرة والمؤسسات التربوية والتعليمية، وانتهاء بالجهات المسؤولة. ولكن تطبيق العمل المؤسسي في مؤسساتنا العامة والخاصة هو خطوة راسخة تختصر الطريق الطويل! ولا يقل عن ذلك أهمية الدفع بطبيق ''الحكومة الإلكترونية''، فإدخال التعاملات الإلكترونية يقلص الميول الإنسانية ويحد من ''الهوى'' لدى كثير من الناس، وقد حققت بعض الأجهزة الحكومية نجاحاً ملموساً في هذا السبيل، كالأحوال المدنية وصندوق التنمية العقاري وغيرهما.