تخطيط وإدارة المشاريع: ذو القرنين نموذجا

في سورة الكهف وردت قصة ذي القرنين مع قوم تعرضوا للإيذاء والإفساد من أمة يأجوج ومأجوج ألخصها كما وردت في كتب المفسرين محاولا ربطها بالواقع وبعلم إدارة المشاريع، حيث وصل ذو القرنين إلى قوم يسكنون قرب جبلين متقابلين بينهما ثغرة تخرج منهما أمة يأجوج ومأجوج فيعيثون فيهم فسادا ويهلكون الحرث والنسل وعندما رأوا في ذي القرنين الكفاءة وأسباب القوة والتمكين حيث جمع بين الإيمان وعلوم الدنيا والقوة (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) طلبوا منه إقامة سد لمنع إيذاء يأجوج ومأجوج (أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)، وعرضوا على ذي القرنين دفع أجرة مقابل قيامه بتنفيذ السد (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا).
ومن هنا تبدأ المرحلة الأولى من دورة حياة أي مشروع وهي (مرحلة التعريف وتحديد مدير المشروع)، حيث قامت الجهة المستفيدة من تنفيذ المشروع وهي (قوم بين السدين) بتعريف المشكلة التي يواجهونها وأن هناك حاجة ملحة إلى تنفيذ مشروع لمنع إيذاء أمة يأجوج ومأجوج وحدد المنتج المطلوب من المشروع تحقيقه وهو إقامة سد, كما اختير مدير المشروع الكفء الذي سيسند إليه التخطيط وتنفيذ المشروع (ذو القرنين).
ووافق ذو القرنين على بناء السد مع زهده بما عرض عليه من المقابل المادي (الخرج) بسبب ما أنعم الله عليه من أسباب القوة والتمكين (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ), وطلب من (قوم ما بين السدين) إمداده بالموارد المطلوبة للتنفيذ من أيد عاملة (أعينوني بقوة) ومواد يحتاج إليها للتنفيذ (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ)، وهي قطع الحديد الكبيرة. كما قام بتعديل المنتج النهائي المطلوب من الجهة المستفيدة وهو السد إلى منتج أفضل منه وهو الردم (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)، حيث يزيد الردم في كونه سدا مضاعفا ببناء جدارين متباعدين وردم الفراغ الذي بينهما ليتعذر اختراقه. وهذه تمثل المرحلة الثانية من دورة حياة المشروع وهي التخطيط حيث تم تحديد نطاق العمل بدقة (إنشاء ردم لسد الثغرة التي تخرج منها أمة يأجوج ومأجوج) ومواصفات موادة (زبر الحديد) وتحديد الموارد البشرية اللازمة للتنفيذ (أعينوني بقوة).
ثم بدأت المرحلة الثالثة من دورة حياة المشروع وهي التنفيذ مع الرقابة والإشراف من قبل ذي القرنين (مدير المشروع) وفريق العمل من قوم (بين السدين) بوضع قطع الحديد حتى مساواة بين قمة الجبلين (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) ثم صهر الحديد بالنار (قَالَ انْفُخُوا) ثم صب القطر فوق الردم (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا).
ويلاحظ تسلسل خطوات العمل بدقة من وضع قطع الحديد حتى الوصول لمساواة قمة الجبلين ومن ثم النفخ بالنار على هذه القطع وأخيرا صب القطر وكل ذلك تحت رقابة وإشراف ذي القرنين وتأكده من جودة المواد، حيث يقوم باستلامها بقوله (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) ودقة التنفيذ بقوله (انفُخُوا) وقوله (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْر) ليكتمل المشروع وليتحقق المنتج النهائي بسد مرتفع أملس لا يستطيع قوم يأجوج ومأجوج بالصعود إلى قمته لتجاوزه وإيذاء قوم بين السدين وكذلك لا يستطيعون نقبة أي ثقبه لصلابته وسماكته (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا). وبهذا نصل إلى المرحلة الأخيرة من المشروع وهي مرحلة الإنهاء والتسليم بإنجاز المشروع بتحقيق غرض الجهة المستفيدة من المشروع وبجودة عالية تحقق توقعات الجهة المستفيدة بل زادت عن توقعاتهم.
وعندما انتهى ذو القرنين من هذا العمل الجبار، نظر للسّد فلم يأخذه البطر والغرور والافتخار بالقوة والعلم, ولكنه ذكر الله فشكره, ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه وقال: (هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي). وأوضح أن لهذا المشروع نهاية. (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي) أي: لخروج يأجوج ومأجوج (جَعَلَهُ) أي: ذلك السد المحكم المتقن (دَكَّاءَ) أي: دكه فانهدم، واستوى هو والأرض (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).
ومن الدروس المستفادة من هذه القصة ما يلي:
1 ــ هذا المشروع نفذ بطريقة عقد (التصميم والتنفيذ)، حيث حددت به الجهة المستفيدة المنتج النهائي المطلوب وهو السد الذي يمنع إيذاء أمة يأجوج ومأجوج وقام مدير المشروع ذو القرنين بوضع التصميم ومواصفات العمل وقام بالتنفيذ، وعقد التصميم والتنفيذ يفتح الإبداع للمقاولين المنفذين للتنافس لإنجاز العمل المطلوب بجودة عالية وبتكلفة ومدة قليلة, وقد يحسن الاستفادة منها بكثير من المشاريع بدلا من العقد التقليدي الذي يمر بمراحل التصميم من الاستشاري ثم الطرح للمنافسة بتنفيذ التصميم مع جمود بالإبداع في إنهاء العمل المطلوب بطريقة تخالف التصميم حتى وإن كان سينتج عن ذلك وفرا بالتكلفة أو الوقت أو زيادة في الجودة.
2 ــ أن اختيار المنفذ الكفء (ذو القرنين) هو من أهم أسباب نجاح إنجاز هذا المشروع بجودة عالية، وهذا يشير إلى أهمية عدم إسناد تنفيذ المشاريع إلا على المنفذ المؤهل (وليس على الأقل تكلفة).
3 ــ توافر صفات مدير المشروع الناجح في ذي القرنين، حيث توافرت لديه المعرفة التقنية بالعمل المطلوب تنفيذه وتمكنه من تطبيقات علم الإدارة بالتخطيط والتنفيذ والرقابة والصفات القيادية بقيادته الناجحة لفريق عمل المشروع بمهارات التواصل مع القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا وتحفيزهم بالعمل الجماعي بقوله (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) وقوله (انفُخُوا) وقوله (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرا).
4 ــ أن أسلوب ذي القرنين في طلب مشاركة الجهة المستفيدة من المشروع (قوم ما بين السدين) بتوفير الموارد البشرية ومواد الإنشاء - على الرغم من تمكينه وقوته وجيوشه التي تمكنه من القيام بتنفيذ السد دون مساعدة - قد حقق تعزيزا للثقة بالقدرات الذاتية لقوم ما بين السدين مما ساعدهم على حماية أنفسهم، وكسب خبرات، والتدرب على العمل الجاد المثمر الذي جعلهم يبنون السد بأيديهم؛ وهذا أدعى للحفاظ عليه وإصلاحه.
وحري بنا أن نستفيد من هذا الأسلوب في إنشاء بعض المشاريع عن طريق توفير شركة مؤهلة وذات خبرة بإدارة تنفيذ المشاريع تقوم بالتوجيه والإشراف والتدريب لطاقم العمل بالمشروع الذي يختار من المواطنين الذين ليس لديهم عمل (البطالة) للقيام بتنفيذ المشروع مما يحقق دخلا ماديا للمشاركين بالمشروع وينشط طاقتهم المعطلة ويمنحهم خبرة لتنفيذ مشاريع مماثلة أو بالعمل مع فريق التشغيل والصيانة بعد انتهاء التنفيذ.
وقد سبق أن عمل جيل الآباء مع شركة أرامكو بمهنة عمالة وعلى الرغم من عدم حصول بعضهم على مؤهلات علمية إلا أنهم نجحوا في أداء الأعمال الموكلة إليهم بتوجيه وإشراف إدارة المشروع مما حقق لهم الخبرة والعائد المادي مما يشجع تجربة هذه الطريقة، ولا سيما أن الكثير من أبنائنا الذين ليس لديهم عمل يحملون مؤهلات تعليمية وفنية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي