سوق الأراضي بين قوى السوق وقوى البيروقراطية
تمثل تكلفة الأرض 30 في المائة إلى 35 في المائة من التكلفة الإجمالية للوحدة السكنية؛ ولذا فإن ارتفاع أسعار الأراضي أحد أهم عوامل زيادة أسعار السكن. وعلى أن التضخم طال أكثر السلع والخدمات نتيجة زيادة الإنفاق الحكومي، إلا أن معدل الزيادة في أسعار الأراضي أكبر من معدل الزيادة لكثير من السلع والخدمات. ومع أن ارتفاع السلع الاستهلاكية يعود في الغالب لأسباب خارج الاقتصاد الوطني؛ إذ يتم استيرادها من دول أخرى ويكون المبرر حينها ارتفاع تكاليف الإنتاج وزيادة الطلب العالمي عليها، إلا أنه في المقابل لا يوجد ما يبرر هذا الارتفاع الصاروخي لأسعار الأراضي التي هي بكل تأكيد سلع داخلية درجة تأثرها بالعوامل الخارجية محدودة. وهنا يبرز السؤال المهم الذي يدور في أذهان الكثيرين الذين يقفون مندهشين ومستغربين أمام هذا الارتفاع الجنوني لأسعار الأراضي، لماذا هذا الارتفاع العام لأسعار الأراضي بغض النظر عن الموقع والميزة النسبية؟ التحليل الاقتصادي يقول إن هناك اختلافا في قوى العرض والطلب، وإن الزيادة هي نتيجة حتمية لزيادة الطلب وشح في العرض في المدى القصير، أي في الفترة التي لا يمكن خلالها زيادة العرض من الأراضي الصالحة للسكن، أي الأراضي المزودة بالخدمات العامة الأساسية من رصف للطرق وتوفير خدمات الكهرباء والماء والإنارة. لكن هذه الأعمال التطويرية لا تستغرق وقتا طويلا، فضلا عن أنه من المفترض أن هناك خططا عمرانية تتوقع الزيادة في عدد سكان المدينة، ومن ثم تهيئ المخططات اللازمة لتلبية الطلب المستقبلي على الأراضي السكنية. إذاً في هذه الحال، قد يكون من الأجدر إعادة صياغة السؤال السابق على النحو التالي: لماذا لم يتم وضع مخططات للأراضي السكنية تلبي احتياجات السكان كما ونوعا؟ هناك إجابة مباشرة في أنه لا يوجد أراضٍ كافية داخل النطاق العمراني المحدد للمدينة، وهذا يجرنا إلى موضوع أكبر يتعلق بحدود المدينة الرسمية، وكيف يتم ترسيمها وأسلوب إدارتها والنظر للمدينة كوحدة سياسية وليس كمستقرة عمرانية، وكل ذلك يقود إلى نقاش كيفية صنع القرار المحلي. هذا الموضوع واسع ومتشعب، وقد تطرقت له في مقالات عدة سابقة، لكن كان القصد الإشارة إلى الربط بين موضوع ارتفاع أسعار الأراضي كإحدى القضايا المحلية وكيفية إدارة المدن ومستوى مشاركة السكان في صناعة القرار المحلي. فالخطط المستقبلية للمدينة، التي من أهمها إدارة استخدامات الأراضي هي سياسات عامة محلية تتطلب تداخل سكان المدينة عبر ممثليهم في المجالس البلدية، لكن الإشكالية أن معظم القرارات المتعلقة بالأراضي تكون بيروقراطية مركزية، وما حادثة المخططات التي أغرقتها السيول في مدينة جدة، التي أفسح لها مركزيا، عنا ببعيد.
هناك أمر آخر على درجة كبيرة من الأهمية، وهو وإن بدا في الظاهر أن سوق الأراضي سوق تنافسية تخضع لقوى الطلب والعرض، إلا أنها في واقع الأمر هي تنافسية احتكارية أي يتنافسها عدد محدود من الملاك والمطورين؛ ما يجعلهم في مركز المتحكم في سوق الأراضي وتكون المنافسة في طريقة العرض ونوعية الخدمات المقدمة لزيادة السعر وليس خفضه!
ولأن الملاك والمطورين هم من أصحاب النفوذ والمال فيكون باستطاعتهم تحمل مدة الانتظار، ومن ثم إجبار الباحثين عن الأراضي الأسعار الجديدة المرتفعة للأراضي. وقد يقول قائل إنه في سنوات خلت كان هناك تراجع في أسعار الأراضي، وإن ذلك دليل على أن سوق الأراضي تخضع للمنافسة الكاملة. والحقيقة أن ذلك يعود لحالة الاقتصاد؛ ففي حال الركود يكون هناك تراجع عام في الطلب على معظم السلع والخدمات وليس على الأراضي وحدها، وهنا تكون خارج إرادة جميع الأطراف المتعاملين في السوق. لكن ما يحدث في حال الانتعاش الاقتصادي هو أن ملاك الأراضي والمطورين بإمكانهم أخذ أكثر من نصيبهم من الكعكة الاقتصادية بحكم مركزهم المسيطر على سلعة أساسية لا غنى لأحد عنها وتؤثر على جميع سكان المدينة بطريقة مباشرة بارتفاع أسعار الوحدات السكنية أو غير مباشرة بارتفاع إيجارات السكن على سبيل المثال. الأراضي كانت وما زالت وستظل آلية لتوزيع الدخل؛ ولذا يلزم النظر إليها من هذه الزاوية والعمل على تجسير الهوة بين الأكثر حظا والأقل حظا في المجتمع بتبني سياسات لتخطيط الأراضي وتداولها تكون أكثر شفافية وتراعي المصلحة العامة. فالأراضي أحد أهم عناصر الإنتاج ويجب ربطها بأهداف التنمية الوطنية بدلا من أن تتحول إلى لعبة تجارية يتم فيها تداول الثروة، دون إضافة حقيقية للاقتصاد الوطني. إن ما يحدث في سوق الأراضي يذكرنا بما حدث في السوق المالية قبل بضعة أعوام، إلا أن الفرق هذه المرة هو التلاعب في سلعة ضرورية لها تبعات اقتصادية واجتماعية وأمنية.
يفترض على المدى البعيد أن تتراجع أسعار الأراضي، خاصة في المناطق الصحراوية الشاسعة (غير محدودة) التي لا تمتلك ميزات تفضيلية فلا نهر جارٍ ولا غابات. ولذا قد يوجد مبرر في ارتفاع أسعار الأراضي في المناطق القريبة من الأماكن السياحية كالمرتفعات ذات المناخ المعتدل والسواحل البحرية، لكن أن يستمر ارتفاع الأراضي إلى ما لا نهاية في المناطق الصحراوية فإن ذلك دليل على أن سوق الأراضي لا تعمل بكفاءة، وأن هناك محتكرين يتحكمون فيها. لماذا يصل سعر متر الأرض في المتوسط إلى 1500 ريال مع أن تكلفة التطوير لا تتعدى 30 في المائة من هذه التكلفة؟. إذاً السؤال، إذا كانت الأراضي هي في أصلها عامة ويتم منحها أو بيعها ومن ثم وعبر سلسلة من الوسطاء والصفقات يتم تطويرها ليتضخم سعرها لتصل إلى المستهلك النهائي الذي يجبر على دفع تلك التكاليف التي هي في معظمها وهمية، لماذا لا يتم تطوير الأراضي من قبل البلديات أو منحها لمطورين وحساب تكلفة التطوير، إضافة إلى نسبة ربح بحيث يعلم مسبقا سعر بيع المتر؟. هكذا نكون قد أسهمنا في معالجة مشكلة الإسكان والتوفيق بين مستوى دخول الأفراد وتكلفة السكن. قد يعترض البعض على المقترح بحجة أنه يتعارض مع آلية السوق، وهذا الاعتراض قد لا يكون في محله؛ لأن من واجب الدولة تقنين السوق ومراقبتها، نجد ذلك حتى في الولايات المتحدة مهد الرأسمالية واقتصاد السوق؛ فلديها تشريع ضد الاحتكار antitrust law لا يسمح للشركات أن تحتكر الخدمة وتستحوذ على حصة كبيرة من السوق وتتحكم به. هكذا فقط نستطيع أن نوازن بين قوى الاقتصاد وقوى البيروقراطية بدلا من أن تكون البيروقراطيات أداة للمتنفذين على حساب المصلحة العامة.