الرهن العقاري بين المخاطر والمنافع

عرضت قناة العربية أخيرا حلقة نقاش حول أنظمة الرهن والتمويل العقاري، شارك فيها عدد من الخبراء والعارفين بشؤون هذه الأنظمة، الذين أضفوا بحديثهم كثيرا من الإضاءات حول هذه الأنظمة وانعكاساتها على قضية الإسكان في المملكة. ما أود أن أعرضه في هذا المقال هو مجموعة من الرؤى والملاحظات التي تندرج في إطار التعليق على ما دار في تلك الحلقة، وما يتعلق بهذه القضية من تفاصيل أرى أنه من الضروري أن تكون في حسبان القائمين على صياغة تلك الأنظمة ووضعها موضع التنفيذ. قدم الشيخ يوسف الفراج في تلك الحلقة شرحا لآليات التمويل العقاري التي تشمل التمويل التأجيري وتمويل المرابحة وغيرها من النماذج. وذكر الشيخ فيما ذكره أن صيغة الإجارة، أو التمويل التأجيري، تمثل النسبة العظمى من تطبيقات التمويل التي تتعامل بها البنوك وشركات التمويل في الوقت الراهن. وهي الصيغة التي لا تأخذ بإجراءات الرهن، إذ إنها تبنى على تملك جهة التمويل لعين العقار موضوع التمويل. وما وددت أن أعلق عليه في هذا الجانب، أن صيغة التمويل التأجيري أو الإجارة لا تمثل الصيغة الملائمة لتوظيف آلية منابة لتدوير رؤوس أموال شركات التمويل العقاري، إذ إن الأساس في دورة التمويل العقاري هو تحويل الرهون العقارية إلى أوراق مالية عبر عمليات التوريق التي يتم بيعها وتدويرها في السوق الثانوي لإعادة تدوير رؤوس أموال شركات التمويل العقاري، وهو ما لا يتم في حالة تملك شركات التمويل العقاري المساكن التي يتم تمويل شرائها وفق آليات التأجير التمويلي. وفي النتيجة، فإن صيغة الرهن العقاري وآليات المرابحة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يتم من خلالها تدوير رؤوس أموال شركات التمويل العقاري، ويكون بذلك نظام الرهن العقاري المحرك الرئيس للتوسع في عمليات التمويل العقاري، وهو النظام الذي يحقق الميزة الأهم في تقليل المخاطر على جهات التمويل العقاري، عبر نقلها إلى جهات التمويل في السوق الثانوي، التي تقوم بشراء تلك الرهون، وهو ما يؤدي إلى تقليل المخاطر على جهات التمويل، وبالتالي إلى تقليل تكاليف ونسب الفائدة على التمويل.
الملاحظة الثانية هي أن مجمل منظومة الأنظمة الخمسة التي تناولها البحث، والتي يجري العمل على إتمام صياغتها وإصدارها بين مجلس الشورى وهيئة الخبراء والجهات الأخرى ذات العلاقة، هذه الأنظمة كلها لا تتعامل مع قضية ارتفاع أسعار الأراضي التي يعاني منها سوق الإسكان في الوقت الراهن. هذه القضية تقع في صلب أزمة الإسكان، ويجب أن تقوم الجهات المعنية بالتعامل معها بما يحقق الفعالية المأمولة من تلك الأنظمة الجاري العمل عليها، لتحقق التأثير المأمول في حل أزمة الإسكان في المملكة. فبدون معالجة قضية أسعار الأراضي ستظل الأزمة تراوح مكانها، ولن يكون لهذه الأنظمة أي تأثير سوى ارتفاع أسعار العقارات السكنية، وهو الانعكاس المباشر الناجم عن التوسع في آليات وحلول التمويل في ظل قصور العرض الملائم لنوعية الطلب المقنن من قبل شركات التمويل العقاري. والمطلوب في هذا الجانب، ولكي تحقق هذه الأنظمة الفعالية المأمولة، أن يتم العمل على صياغة مجموعة من الأنظمة والإجراءات التي تعالج مشكلة ارتفاع أسعار الأراضي السكنية على وجه الخصوص، بما في ذلك فرض الزكاة الشرعية والرسوم الإدارية على الأراضي الفضاء التي تمثل نحو 30 في المائة من مساحة مدينة رئيسية مثل الرياض، وبشكل خاص تلك الأراضي التي تتمتع بالخدمات التي تم تزويدها من قبل الدولة، دون أن يتم تطويرها وتداولها لتضيف إلى مخزون الأراضي في المدن. هذا المقترح سبق أن عرضه كثير من الكتاب والخبراء والمحللين، ولا أدري ما هو السبب الحقيقي الذي يحول دون وضعه موضع الدراسة الجادة. وكل ما أرجوه، ألا يكون السبب وراء هذا الواقع هو تعارض المصالح بين هذا المطلب ومصالح المتنفذين من أصحاب العقارات.
الجانب الثالث هو جانب المعرفة الفنية في تطوير المساكن. فالملاحظ أن هذا الجانب هو جانب مغفل من كافة الجهات التي تعمل على حل قضية الإسكان، وما زالت النظرة إلى آليات البناء والتطوير تتعاطى مع ذات النمط والآليات والأساليب التقليدية في بناء المساكن التي توقع الكثير من الهدر والتبذير والتضخيم في تكاليف البناء. إن العالم من حولنا يزخر بالكثير من آليات وأساليب وتقنيات البناء المتطورة التي تحقق الكثير من الوفر في تكاليف البناء، وتنتج مساكن أكثر جودة وتأهيلا من المساكن التي يتم تداولها في سوق الإسكان في المملكة. وحتى شركات التطوير الإسكاني الكبرى ذات رؤوس الأموال المليارية لم تعكف حتى الآن على تطوير تلك الأساليب، وما زالت تتبع ذات الأساليب التقليدية التي تنتج مساكن متهالكة الجودة ومرتفعة التكلفة. المشكلة أن تلك الأساليب التي عفا عليها الزمن لم تعد فحسب منتجة لمساكن مكلفة ومتدنية الجودة، ولكن هذا النوع من المساكن لا يمثل المطلب لشركات التمويل العقاري، ولا تستطيع تلك الشركات ضمان قيمة هذا النوع من المساكن طيلة مدة التمويل التي تصل إلى 30 عاما. وفي النتيجة، فإنه من الضروري تطوير آليات البحث والتطوير للخروج بنماذج حديثة من المساكن مرتفعة الجودة ومنخفضة التكلفة، عبر توظيف آليات وتقنيات البناء الصناعية التي أنتجها كثير من الدول المتقدمة في هذا المجال. والغريب أن صندوق التنمية العقاري، الذي بلغ مجمل القروض التي منحها منذ تأسيسه ما يزيد على 135 مليار ريال، لم يخصص أي جزء من مصروفاته لهذا الجانب الحيوي المهم. فهل يمكن أن يعي الصندوق أهمية دوره في هذا المجال؟
الجانب الأخطر في أنظمة الرهن العقاري، والذي لا أعتقد أن تلك الأنظمة أخذته بعين الاعتبار، هو إمكانية توظيف آليات الرهن العقاري لتسييل العقارات المملوكة للمواطنين، عبر استخدام مساكنهم كضمانات مرهونة للحصول على القروض الشخصية، التي يمكن أن يتم توجيهها إلى مصارف استهلاكية بحتة، أو ربما إلى مصارف مضاربية بحتة في سوق الأسهم قد تعود على أصحابها بخسائر مالية تؤدي بهم وبأصولهم السكنية إلى الدمار. وما أرجوه، أن يتم تضمين هذه الأنظمة، أو لوائحها التنفيذية، آليات عملية للحد من إمكانية هذا التوظيف السلبي لتلك الأنظمة، حماية للمواطنين من إغراءات البنوك والربح السريع، الذي لم يعد على الناس إلا بالويل والثبور في أزمة سوق الأسهم التي ما زلنا نرى آثارها السلبية حتى وقتنا الحاضر.
خاتمة القول، هذه الأنظمة ضرورة ملحة لتفعيل حلول أزمة الإسكان، وفي الوقت ذاته، فإن هذه الأنظمة يمكن أن تعود بالضرر الكبير على حياة الناس. وعليه، فإنه من الضروري أن يتم تدعيم هذه الأنظمة بالعديد من إجراءات الحماية والتوعية لمنع آثارها السلبية في المواطنين، لتؤدي بذلك دورها الإيجابي في معالجة قضية هي الأكدأ والأخطر في قضايا مجتمعنا السعودي المعاصر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي