كيف أصبحنا لا نميز بين الجهاد و«الجهادية»
المقالات التي ظهرت في هذا العمود حتى الآن بدأت تأخذ حيزا لا بأس به من اهتمام القراء في كثير من الأمصار. أن لا يتفق معي القراء فيما أنا ذاهب إليه في هذه السلسلة الطويلة من المقالات فهذا أمر طبيعي، وقلما أرد على الانتقادات التي توجه لي في هذا الصدد، بيد أن ظهور أصوات وبقوة في الآونة الأخيرة تتهمني بالكفر ومحاولة التنصير، وأصوات أخرى بتحولي إلى داعية إسلامي مؤيد للإرهاب والعنف أجبرني على الرد.
يشهد الله أنني أصرف وقتا طويلا في كتابة كل مقال يظهر في هذا العمود. أنا شخص أكاديمي أولا وثانيا للجريدة التي أكتب فيها مكانة مرموقة في عالم الصحافة العربية ذات الصدقية. ولهذا قد يضطر بعض القراء إلى مراجعة ما كتبته سابقا، كي يستطيع الربط بين المفاهيم التي أثيرها. بمعنى آخر لا يجوز الحكم على ما أكتبه في هذا العمود من خلال مقال واحد أو حتى عدة مقالات. إنها سلسلة متصلة ومترابطة من ناحية المضمون والشكل.
نظرتي إلى الإسلام تنبع من واقع عشته لعقود طويلة، ومن قراءتي كتابه، ومن اطلاعي على تاريخه. الإسلام دين عظيم، دين يأوي الآخر ويحتضنه، دين الإحسان والتسامح والجهاد في سبيل الخير ومقارعة الظلم والظالمين. هذا الدين العظيم يحتل أوسع مساحة جغرافية على وجه الأرض بالنسبة إلى عدد أتباعه من أي دين آخر، حتى المسيحية التي يبلغ عدد أتباعها نحو ثلاثة مليارات نسمة، أي نحو ضعف عدد المسلمين. هذا الدين صار اليوم هدفا لهجمة شرسة، والدليل وجود جيوش أجنبية جرارة مدججة بأفتك وأحدث أسلحة تقاتل المسلمين في أراضيهم، في فلسطين، وفي العراق، وفي أفغانستان. المسلمون ليس لديهم جندي واحد يقاتل في أراضي غيرهم. هذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان.
ومن الناحية الخطابية فالهجمة أشرس حتى بتنا اليوم لا نميز بين المقاومة الحقيقية والبطش والفتك بالمدنيين والمدن والقرى والقصبات مع سكانها. وهناك أحد الأمثلة الحية. خرج علينا الغرب أخيراً بمصطلح Jihadisim or Jihadists
(الجهادية والجهاديون)، وتلقفه العرب فورا جاعلين منه جزءا من خطابهم فصرنا لا نميز بينه وبين الجهاد والمجاهدين. أنا أميز بين الاثنين في كتاباتي. ''الجهاديون'' بالنسبة للغرب هم القتلة والمنافقون من الذين لا يميزون بين طفل رضيع وجندي صنديد، يقتلون الطفل والشيخ والمرأة وكأنهم يقتلون الذباب. وكل من يفعل هذا يقع في خانة ''الجهادية''. كم عراقي وفلسطيني وأفغاني مدني مسالم وقع ضحية الآلة العسكرية الغربية والإسرائيلية؟! كم طفل وعائلة سحقتها الآلة العسكرية الأمريكية في العراق؟! هل نحن في حاجة إلى الاقتباس من ويكيليكس؟ وكيف أن الجيش الأمريكي الغازي كان يفجر مبنى سكنيا من عدة طوابق على ساكنيه لشكه في وجود قناص فيه، وكيف أن شريط الأخبار من شاشة التلفزيون، وبعد وقت قصير يظهر لنا بيانا يقول إن المنظمة الفلانية قد تبنت الانفجار؟ هناك أكثر من 200 شركة كبيرة في أمريكا فقط يعمل فيها الآلاف شغلها الفبركة وصناعة التقارير والبيانات وبثها على شبكة الإنترنت وتوزيعها على الصحافة والإعلام، وأغلبها زبائن لدى البنتاجون ووزارة الخارجية والبيت الأبيض وإسرائيل.
هذه ''الجهادية'' من الشيطان، وهي من الشيطان وإن كان مقترفوها من المسلمين. قتل الأنفس البريئة يقوم به ''الجهاديون'' إن كانوا مسلمين أو غيرهم. الجهاد الحقيقي لا يظلم، يحمي المسكين والضعيف ويأوي اليتيم ويطعم الجائع ويرفق بمن لا حول ولا قوة له. الجهاد الحقيقي موجه ضد الطغاة والغزاة والمحتلين وفي اللحظة التي تزوغ بوصلته عن هدفها يصبح ''جهادية''.
فعندما أشد على أيدي المجاهدين في فلسطين وغزة ولبنان والعراق وأفغانستان أستثني منهم ''الجهاديين'' من الذين يقتلون بالجملة إن كان من خلال التفجير أو طائرات مسيرة. الجهاد هو مقارعة ومقاومة المعتدي والظالم والمحتل. الجهاد هو مقاومة الفقر والجهل والمرض والتخلف. الجهاد هو الإحسان والتسامح فشتان بين ''الجهادية'' والجهاد. ''الجهادية'' هي بالضبط ما يفعله الغزاة في أراضي العرب والمسلمين. ''والجهادية'' هي بالضبط ما يفعله بعض العرب والمسلمين ببعضهم بعضا من قتل وتكفير وفتك مثل الانفجارات الرهيبة التي تحدث في العراق على أيدي بعض المنظمات التي تدعي الإسلام دينا.
كيف حدث أن ألصقت تهمة ''الجهادية'' بالعرب والمسلمين فقط، وتم تبرئة ساحة الذين استنبطوها لغويا وطبقوها عمليا؟ أترك الجواب للكتاب العرب. وهكذا تنجو القوات الغازية وقوات المرتزقة من تهمة ''الجهادية''، رغم الدليل القاطع من خلال وثائق ويكيليكس ـــ والتي بحوزتنا حتى الآن ـــ أنها قتلت أكثر من 100 ألف مدني عراقي. وهكذا تنجو إسرائيل بجلدها مما تقترفه من ممارسات ''الجهادية'' في الأراضي المحتلة، وأمام أنظار العالم، وتلصق التهمة بالمقاومين في غزة وجنوب لبنان، وهكذا دواليك.
أما القول كيف يجوز لكاتب مثلي الوقوف مع المجاهدين ضد الغزاة والمحتلين وأعوانهم في فلسطين والعراق وأفغانستان قول باطنه وظاهره باطل. نعم سيبقى قلمي في خدمة المجاهدين، وسأجعل منه سوطا ضد ''الجهاديين''.
وإلى اللقاء.