الخليج.. والتحكم في أسواق النفط العالمية (14)

تبين في الحلقة الماضية أن الاحتكار الكامل كما هو موصوف في كتب الاقتصاد لا ينطبق على ''أوبك''؛ لأنها ليست المنتج الوحيد في السوق ولا تسيطر إلا على 40 في المائة من الإنتاج العالمي. لهذا فإنه عادة ما يتم استخدام نموذج ''احتكار القلة'' لشرح سلوك ''أوبك''. كما تبين أيضاً أن صفة ''منظمة احتكارية'' أو ''كارتل'' لا تنطبق على ''أوبك'' لأسباب عديدة ذكرت في الحلقة الماضية. لهذا فإن فهم سلوك ''أوبك'' وأثرها في أسواق النفط العالمية يتطلب البحث عن نظريات ونماذج سوقية أخرى قادرة على شرح تقلبات الإنتاج والطلب والأسعار من جهة، وتصرفات دول ''أوبك'' المختلفة من جهة أخرى. وفي هذا الإطار قام عدد من الباحثين بتقديم نظريات مختلفة تتلافى عيوب النموذج السابق وتركز على الاختلافات ضمن دول ''أوبك''.

ب ـ قلب ''أوبك'' كمنتج مسيطر
يرى الباحثون الذين ركزوا على هذا النموذج أن البيانات والتحليلات الإحصائية تشير إلى أن ''أوبك'' تتمتع بقوة احتكارية في أسواق النفط العالمية, ولكن الدول الأعضاء لديها مصالح مختلفة مما يجبر البعض على عدم التعاون مع الدول الأخرى، الأمر الذي يتطلب نماذج جديدة تختلف عن النموذج الاحتكاري الذي ذكر في الحلقة الماضية. وبالنظر إلى هذه الدراسات التي تركز على سلوك ''قلب أوبك'' نجد أنها تنقسم إلى ثلاثة نماذج سوقية مختلفة: نموذج الكارتل الثلاثي، نموذج الكارتل الثنائي، ونموذج الكارتل الأحادي.
1 ــ نموذج الكارتل الثلاثي:
قامت الدراسات التي قدمت هذا النموذج بافتراض أن ''أوبك'' عبارة عن كارتل مكون من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول هو ''قلب أوبك'' ويشمل الكويت وليبيا وقطر والسعودية والإمارات. ما يميز هذه المجموعة أن لديها احتياطيات نفطية ضخمة، وعدد سكان منخفضا نسبيا، وخططا مرنة للتنمية الاقتصادية. في هذه الحالة يمثل ''قلب أوبك'' المنتج المسيطر ضمن ''أوبك'' ويحدد السعر نيابة عن ''أوبك''. وهذا يتطلب قيام هذه المجموعة بالاحتفاظ بطاقة إنتاجية فائضة للسيطرة على الأسعار أثناء حالات الطوارئ. وعادة ما يكون هدف هذه المجموعة أسعار نفط معتدلة كي لا ينخفض الطلب على النفط في المستقبل.
الجزء الثاني هو مجموعة ''تعظيم السعر''، وتشمل كلاً من الجزائر وإيران وفنزويلا. ما يميز هذه الدول أن احتياطياتها النفطية متوسطة الحجم، وعدد سكانها كبير، ولديها فرص محتملة للتنمية الاقتصادية. هذه الدول تهدف إلى زيادة الأسعار عن طريق تخفيض الإنتاج، وعادة ما تكون هذه الأسعار أعلى من الأسعار التي ترغبها المجموعة الأولى.
الجزء الثالث هو مجموعة ''تعظيم الإنتاج'' وتشمل الإكوادور والجابون (هذه الدراسات تمت قبل انسحاب الجابون من المنظمة) وإندونيسيا والعراق ونيجيريا. ما يميز هذه الدول هو محدودية احتياطياتها النفطية (ما عدا العراق)، وضخامة عدد سكانها وحاجتها الماسة للتنمية الاقتصادية. هذه الدول تنتج ما يمكنها إنتاجه بأي سعر، دون أي التزام بالحصص الإنتاجية، وعادة ما تكون المستفيد الأكبر من قيام المجموعتين الأولى والثانية بتخفيض الإنتاج.
2 ــ نموذج الكارتل الثنائي:
يفترض هذا النموذج أن ''أوبك'' منظمة احتكارية ولكنها لا تتصرف كوحدة متكاملة, لذلك فإنه تم تقسيم ''أوبك'' إلى قسمين: الدول المدخرة، والدول المنفقة. وتشمل الدول المدخرة السعودية وليبيا والعراق والإمارات والكويت وقطر. أما الدول المنفقة فهي إيران وفنزويلا وإندونيسيا والجزائر ونيجيريا والإكوادور والجابون (قبل انسحاب الأخيرتين). ويمكن للفئتين أن تتنافسا مع بعض أو أن تتعاونا. فإذا تنافستا فإن الدول المدخرة ستكون المنتج المسيطر الذي يتحكم بالسعر, بينما ستتصرف الدول المنفقة كالمنتجين في سوق المنافسة وتنتج حسب السعر الذي تحدده الدول المدخرة. أما في حالة التعاون فإن ''أوبك'' تتحول بكاملها إلى منظمة احتكارية تشبه النموذج الذي تم مناقشته في الحلقة الماضية.
3 ــ نموذج الكارتل الأحادي:
الاختلاف الأساسي بين هذا النموذج والنموذجين السابقين أن النموذجين السابقين يفترضان أن أوبك ''كارتل''، بينما لا يفترض هذا النموذج ذلك، حيث يفترض أن جزءا منها، قلب ''أوبك''، فقط هو الكارتل. واختيار دول ''قلب أوبك'' حسب هذا النموذج لا يعتمد على الاحتياطيات وعدد السكان وإنما على عوامل سياسية واقتصادية. فدول قلب ''أوبك'' التي تسيطر على أسواق النفط العالمية هي دول الخليج: الكويت وقطر والسعودية والإمارات، وهي التي تمثل الكارتل العالمي في أسواق النفط، بينما تنافسها بقية دول ''أوبك'' ودول خارج ''أوبك''. وهذا النموذج يشرح التغيرات في أسواق النفط العالمية بالطريقة نفسها التي تشرحها النماذج السابقة: المنتجون المسيطرون يحددون السعر، يقوم المنافسون بالإنتاج حسب هذا السعر، وما تبقى يقوم المنتجون المسيطرون بإنتاجه. فإذا انخفض الطلب يقوم المنتجون المسيطرون بتخفيض الإنتاج، وإذا ارتفع يقومون بزيادة الإنتاج.

نقد نموذج قلب ''أوبك'' كمنتج مسيطر
النماذج السابقة لا يمكن أن تشرح سلوك ''أوبك'' حتى لو تناسقت البيانات مع بعض طروحاتها وذلك للأسباب التالية:
1 ــ تقسيم ''أوبك'' إلى جزأين أو ثلاثة لم يكن مبنيا على مبادئ علمية، خاصة أنه ليس هناك ارتباط بين حجم الاحتياطيات وعدد السكان من جهة، وقرارات تغيير الإنتاج من جهة أخرى. نظريا، ما يؤثر في قرار الإنتاج هو الطاقة الإنتاجية وليس الاحتياطيات. إحصائيا، لا يوجد أي دليل على العلاقة بين الاحتياطيات وعدد السكان والإنتاج.
2 ــ تقسيم ''أوبك'' إلى جزأين أو ثلاثة حيث ينافس جزء منها الجزء الآخر، ثم افتراض أن ''أوبك'' ككل ما زالت كارتل يتناقض مع المنطق لأنه لا يمكن أن تكون مجموعة يتفق سلوكها مع سلوك دول خارج ''أوبك'' ضمن الكارتل.
3 ــ رغم جاذبية هذه النماذج نظريا وسياسيا في شرحها لتطورات الإنتاج والطلب والأسعار، إلا أن البيانات تتعارض مع هذه النماذج، حيث إن الدول في كل مجموعة لم تتصرف كوحدة واحدة، وبعض الدول غيرت سلوكها عدة مرات.
4 ــ بناء على نموذج الكارتل الثلاثي فإن الدول التي تهدف إلى تعظيم السعر ستقوم بتخفيض الإنتاج لرفع السعر. وفي الوقت نفسه ستقوم دول قلب ''أوبك'' بزيادة الإنتاج لمنع الأسعار من الارتفاع، والعكس صحيح. وبالنظر إلى بيانات إنتاج هذه الدول نجد أنها تتعارض مع هذا السلوك.
5 ــ التحليلات الإحصائية توضح أن ''قلب أوبك'' لم يتصرف كمنتج مسيطر، خاصة أن المرونة السعرية للطلب على نفوط هذه الدول لا تتفق مع المرونة السعرية للمنتج المسيطر. فانطباق النموذج يتطلب أن يكون الطلب مرنا على نفط المنتج المسيطر، والبيانات تشير إلى أن هذا الطلب غير مرن.
6 ــ نظرا لأن أغلب إنتاج ''قلب أوبك'' يأتي من السعودية فإنه من الصعب التفريق بين القوة السوقية للسعودية وقوة ''قلب أوبك''.
خلاصة القول إن هذه النماذج الاحتكارية لا تفسر تغيرات الإنتاج والطلب والأسعار في أسواق النفط، ولا بد من البحث عن نماذج أخرى. ما نبحث عنه يجب أن يشرح التغيرات في أسواق النفط العالمية ويتفق مع الواقع والمقبول نظريا.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الشركة التي يعمل فيها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي