قطاع التجزئة.. 600 ألف فرصة عمل مهدرة و160 مليار ريال في يد الوافدين
فجأة اختفى الخمسيني أبو خليل - سعودي - من البقالة التي يبيع فيها، وتغير كل شيء، طاولة المحاسب، لون الإضاءة، طريقة تعامل العمال، وتغيرت اللوحة البسيطة التي تعلو المحل.
منذ عشر سنوات أعرف هذا الرجل الطيب المرح، فإضافة إلى أسعار بضائعه الغذائية المنافسة، فإن في طريقة تعامله مع الزبائن والعمال رونقا خاصا، وطريقة حسابه وقبض فلوسه مخلوطة دائما بضحكة بريئة، وصوت الراديو من خلفه يعطي المكان أجواء أخرى.
أحيانا أذهب لأتسوق من أبي خليل؛ لأني مشتاق للحديث معه والسلام عليه، فنتطرق إلى السعودة والبطالة والأسعار، والإيجارات حتى يصل بنا الحديث إلى زواج المسيار وسط تعليقات زبائنه، الذين عرفهم وعرفوه عن ظهر قلب.
فلسفة أبي خليل تختلف عن كل المحال والبقالات التي نرتادها، فهو يعمل من الثامنة صباحا إلى الثانية عشرة ظهرا كفترة أولى، ومن بعد صلاة العصر إلى صلاة العشاء فقط، بينما البقالات التي تجاوره تفتح على مدى ساعات النهار ونصف ساعات الليل. وأبو خليل يرفض بيع أي شيء مغشوش أو لا يعرف مصدره.
فكثيرا ما أشار إلى طريقة تمييز المنتجات الأصلية وكثيرا ما حذرني من الغش في البقالات الأخرى.الأسبوع الماضي اختلف كل شيء، فقد قرر أبو خليل ترك الجمل بما حمل، والتخلي عن البقالة التي كانت مصدر رزقه وأطفاله، والسبب أنه عجز، رغم كل هذه السنين عن منافسة البقالات الأخرى، على الرغم من التعاطف الكبير معه من قبل الزبائن، فقد قرر مالك العقار رفع الإيجار عليه 40 في المائة.
أمس الأول زرت البقالة عندما قررنا فتح الملف الذي تقرأونه اعتبارا من اليوم، لكني لم أشتر شيئا، فقد أحسست بأني بتلك الخطوة أسهم في طرد أبي خليل آخر، فتوجهت إلى إحدى الأسواق الكبيرة التي يكفي أن أسهمها في البورصة الوطنية. ترى كم هي فرص العمل، بل التجارة التي يمكن أن توفرها منافذ التجزئة المنتشرة في شوارعنا؟ وكم هي المبالغ التي تدور كل ساعة في أيدي العمالة الأجنبية؟ وماذا يعني ذلك لأمننا الوطني والاقتصادي ومستقبل أبنائنا؟ أسئلة كثيرة نحاول من خلال هذه السلسلة البحث عن إجابات عنها، أو لنقل محاولة بسيطة لتشخيص الواقع وقراءته كما يجب.. هنا التفاصيل:
#2#
مسح يكشف المستور!
المسح الذي صدر أخيرا وصنّف العمالة في السعودية بأنها الأغنى في العالم يعبر بشكل مباشر عن الفرص الكبيرة المتوافرة في القطاع الخاص السعودي، خاصة في قطاع التجزئة، وسيطرة الأجانب بشكل كبير على هذا القطاع المهم، وهي السيطرة التي يراها خبراء أنها باتت تشكل قلقا خاصة فيما يتعلق بالجوانب الأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
يتساءل شخص: أين تكمن الخطورة؟ طبعا الجواب تظهره الأرقام؛ فحجم السوق يتجاوز 160 مليار ريال، وإذا أخذ في الاعتبار أن حجم الشركات الكبيرة من هذه السوق لا يتجاوز 20 مليار ريال، سواء في الأغذية أو الألبسة وغيرهما، فإن ذلك يعني أن الخطر الأمني يتمثل في وصول هذه المبالغ الكبيرة إلى أيدي عمالة جاءت من أجل عمل آخر، وليس تملك قطاعات مهمة على خريطة الاقتصاد.
الخطر الذي يراه المختصون إمكانية التأثير في الأمن الاقتصادي وتنامي الجرائم الاقتصادية مثل غسل الأموال، أو القمار، أو استخدام المبالغ في وسائل غير مشروعة.
هذه المبالغ عندما تستقر في يد مالك المحل بعد نهاية العمل، فإنها بالتأكيد لن تأخذ طريقها إلى البنك، حيث المكان الآمن للإيداع، بل ستدور بشكل أو بآخر بعيدا عن العين الساهرة.
ونشير هنا إلى أن السيولة في هذه القطاعات متوافرة بشكل يومي نتيجة المبيعات السريعة.
لتقريب الصورة أكثر يمكن لنا التمعن في عدد المنشآت التي حصلت على تراخيص أو جددت تراخيصها العام الماضي، فقد أظهرت إحصائية لوزارة الشؤون البلدية والقروية أن مجموع رخص المحال بلغ 242 ألف محل، منها 104 آلاف رخصة جديدة، منها 54 ألف رخصة للمواد الغذائية.
أول ضيوفي للحديث حول القضية كان تركي العنزي (25 عاما) الذي يعمل في كتابة المعاريض لما يقارب سبع ساعات يوميا وتحت درجة حرارة تتجاوز 45 درجة مئوية في فصل الصيف، إلا أنه لم يفكر يوما في فتح مشروع خاص يبدأ به حياته ويؤسس للسنوات القادمة من حياته.
يبرر ذلك بقوله: ''العرف الاجتماعي، العادات والتقاليد المتداولة بين الناس تقف حاجزا أمام أي فكرة لفتح مشروع بقالة على سبيل المثال، العرف يقول السعودي لا يعمل في البقالة''.
لكن الشاب ماجد العتيبي، وهو خريج جامعي تخصص حاسب آلي، تعجب من فكرة فتح بقالة خاصة به عندما طرحناها عليه بقوله: ''كيف تريدني أن أعمل في بقالة بعد أن أمضيت 16 عاما في الدراسة الأكاديمية والتعب والسهر، الأمر مستبعد، كما أن المجتمع المحيط بي لن يتقبل الأمر، وربما ينعكس ذلك على حياتي الخاصة''.
ويؤكد متعاملون أن نحو 70 إلى 80 في المائة من البقالات في مدينة جدة مثلا يسيطر عليها العمالة الوافدة، معظمهم تحت مظلة التستر التجاري، مشيرين إلى غياب الرقابة على تلك المحال ومن السهولة بمكان للعمالة دخول هذا المجال.
فيما تفيد البيانات بأن غالبية العمال الأجانب الوافدين إلى سوق العمل السعودية غير مؤهلين، حيث يؤكد تقرير مصلحة الإحصاءات العامة أن الحاصلين من الأجانب على بكالوريوس لا يزيدون على 12 في المائة، في حين يشكل الحاصلون على الثانوية العامة قرابة 15 في المائة، والمتوسطة أكثر من 23 في المائة، والابتدائية نحو 19 في المائة، ومن يجيد القراءة والكتابة 18.5 في المائة فقط، ويبلغ عدد الأميين منهم قرابة 8 في المائة.
وكانت البطالة بين السعوديين بشكل عام قد ارتفعت العام الماضي إلى مستوى 10.5 في المائة من مستوى 10 في المائة الذي سجل في عام 2008.
الشمس البراءة
عندما رأينا الشاب تركي العنزي يعمل تحت مظلة صغيرة أمام مكتب العمل في جدة بادرناه بالسؤال: هل أنت مرتاح في عملك؟ فأجاب: بالتأكيد لا، لكن ما في اليد حيلة.
شرح لنا تركي البالغ من العمر 25 عاما والمتزوج بأنه أكمل تعليمه المتوسط ثم اضطر إلى العمل من أجل مساعدة والديه، وأضاف: ''عملت في الرياض ثلاث سنوات، وبعد أن رأيت المردود يقل هناك، انتقلت إلى جدة، حاليا قاربت السنتين من وصولي هنا، أعمل يوميا منذ السابعة صباحا حتى الواحدة ظهرا، كما ترى الشمس تضرب أجسادنا ودرجة الحرارة مرتفعة مصحوبة بالرطوبة''.
سألناه: لماذا لا تفكر في إنشاء مشروع خاص بك، بقالة على سبيل المثال؟ تبسم ثم قال: ''لم تخطر على بالي فكرة مثل هذه من قبل، هناك العديد من الصعوبات تقف أمامي، أولها رأس المال، ثم العقبة الكبرى وهي العرف السائد بأن السعودي لا يعمل في بقالة''.
وأشار تركي إلى أن عمله طوال اليوم في هذه الظروف يكون متوسط الدخل الشهري 2500 ريال فقط، ويختم حديثه بالقول: صدقني ليس أمامي أي خيار آخر''. لكن الأكيد أن الشمس الحارقة التي تحملها تركي شهادة له وليس عليه.
بقالة ومكتب
ليس بعيدا عن تركي رأينا شابا لا يقل حماسة عنه، والابتسامة لا تفارق محياه، اقتربنا منه، وطلبنا منه التعريف بنفسه، فقال: اسمي عواد العنزي 25 عاما، أعزب، أعمل هنا منذ ثلاث سنوات تقريبا، ولسبع ساعات يوميا''.
طرحنا عليه السؤال نفسه الذي سألناه زميله السابق، لماذا لا تفكر في مشروع خاص بك كبقالة مثلا تخلصك من المعاناة اليومية في الشوارع؟.. فكانت إجابته مختلفة بعض الشيء، وقال ''لم أفكر يوما في فتح بقالة خاصة بي، لكنني أحلم بفتح مكتب خدمات عامة؛ لأنني أجيد العمل في هذا المجال، هو مجرد حلم لا أدري إن كان سيتحقق أم لا، فأنا لا أملك رأس المال أو الدعم، كما أن التعقيدات والبيروقراطية التي نواجهها يوميا ونحن على هذه الطاولة الخشبية التي لا تتجاوز مساحتها المتر المربع تجعلني أفقد الأمل في تحقيق حلمي''.
جامعي يتساءل
عبد الحميد المزمومي، شاب سعودي 24 عاما، بكالوريوس حاسب آلي، طرحنا عليه فكرة فتح بقالة خاصة به يبدأ بها مشوار حياته ويؤسس لمستقبله مبكرا، وتبعده عن متاعب الرواتب وتأخر صرفها في بعض شركات القطاع الخاص، لكنه استهجن الفكرة جملة وتفصيلا، وقال ''درست لمدة تزيد على 16 عاما وتطلب مني اليوم العمل في بقالة!''.
ورغم أن تساؤله يبدو مبررا للوهلة الأولى، إلا أننا حاولنا التوضيح له بأن البطالة تكشر عن أنيابها بين صفوف السعوديين، وأن معظم كبار التجار الذين يراهم اليوم، ما هم إلا نتاج وثمرة لبقالة أو كشك صغير بدأوا به حياتهم.
أخذ نفسا عميقا، واستطرد بقوله: ''يا أخي المسألة ليست مقصورة على شخص، هناك ثقافة مجتمع بأكمله، بربك لو عملت في بقالة وذهبت بعدها عند إحدى الأسر لأخطب ابنتهم، والسؤال المعتاد، هل تعمل وماذا تعمل؟ فأجبتهم بأنني أعمل في بقالة، بكل تأكيد سيصرفون النظر عني. كما أن رأس المال وإجراءات التراخيص المعقدة تطرد الفكرة من رأس أي شاب''.
تيتو: شبابكم يحبون النوم ولا يملكون الإرادة
في المقابل، استطلعنا آراء بعض العمالة الوافدة التي تعمل في مجال البقالات ومحال التجزئة، فتحدثنا بداية مع تيتو أكبر علي، بنجلادشي الجنسية، يعمل منذ ثماني سنوات في إحدى البقالات المنزوية في أحياء مدينة جدة، وكان سؤالنا الأول له: إذا ما أرد شاب سعودي فتح بقالة خاصة به، إلام يحتاج؟ فكان الجواب ناريا، حيث قال ''من يرد الدخول في هذا المجال يجب أن يملك قلبا قويا ولا يخشى شيئا، يجب أن يتحمل العمل لساعات طويلة، ويدفع للموزعين نقدا وليس آجلا''.
ويضيف: ''الشباب السعودي يحب النوم؛ ولذلك لا أعتقد أن العمل في بقالة مناسب لهم''.. في جولتنا مررنا بإحدى البقالات كتب على لوحتها الخارجية (بقالة السعودية) فتوقفنا عندها عل وعسى نجد شبابا سعوديين يعملون فيها، لكن الأمر لم يكن مفاجئا بالنسبة لنا حينما وجدنا عاملا بنجلادشيا يدير المحل، وعندما سألناه: هل أنت صاحب البقالة؟ أجاب بأنه جديد ويعمل في البقالة فقط، أما صاحب البقالة هو نفسه صاحب البناية وسيأتي بعد قليل.
70% من العمالة الوافدة تسيطر على البقالات
أشار محمد صالح، وهو عامل يمني 45 عاما، يعمل في إحدى البقالات، إلى أن 70 إلى 80 في المائة من البقالات في مدينة جدة تسيطر عليها العمالة الهندية، مبينا عدم وجود أي رقابة أمام فتح محال جديدة تحت مظلة التستر التجاري.
وأوضح أن أي شاب سعودي يستطيع فتح بقالة خاصة به شريطة وقوفه شخصيا على رأس العمل، وتابع: ''إذا ما توافرت الإرادة ووقف الشخص على حلاله فسينجح دون شك''.
وكشف صالح عن أن الأرباح والعوائد من البقالات تختلف حسب أفضلية المكان وتوافر البضاعة فيها وقوة رأس المال، وأردف: ''البقالات الصغيرة تكسب من 400 إلى 600 ريال في اليوم ويبلغ صافي ربحها 3500 ريال شهريا''.
وكان مركز الإحصاءات والمعلومات السعودي قد أعلن في وقت سابق أن معدل البطالة في صفوف الشباب السعودي ذكورا وإناثا صعد إلى مستوى 43.2 في المائة للأعمار بين 20 و24 عاما خلال عام 2009.