قطاع التجزئة.. احتكار التوزيع يخنق بقالات السعوديين
التشخيص الخاطئ للمريض يؤدي إلى نتيجة معروفة. إن عولج المريض بناء على ذلك فإن احتمال تعرض حياته للخطر أمر وارد جدا، وإن لم يحصل على علاج فإن عليه أن يواجه مصيره .. هذا على مستوى الصحة فماذا سيحدث على القضية التي تمس المجتمع بأكمله. يبدو أن هذا ما يحدث في قطاع التجزئة. في حلقتنا الثانية اليوم اخترنا أن نستطلع آراء اقتصاديين ابتداء على اعتبار أنها قضية اقتصادية وتفكيكها يحتاج إلى معرفة آرائهم. وهم يؤكدون أن المشكلة التي تواجه توظيف الشباب السعودي في سوق العمل وقطاع التجزئة خصوصاً هي التشخيص الخاطئ، حيث تغيب الأرقام والإحصاءات الدقيقة حول القطاعات التي يمكن أن توفر فرص عمل جيدة تناسب السعوديين.
وأشار الخبراء في حديثهم لـ "الاقتصادية" إلى أن قطاع التجزئة في المملكة يعد واحداً من القطاعات الواعدة لتوظيف آلاف الشباب السعودي إلا أنه غير مستغل بالطريقة المثلى، مبينين أنه يشمل نوعين من الفرص التي يوفرها للشباب، إما التوظيف لدى الكيانات الكبرى في سوق التجزئة، أو تأسيس مشاريع صغيرة أو متوسطة تكون نواة لمؤسسات وشركات سعودية مستقبلاً.
كنا في الحلقة الأولى قد فتحنا الملف وتحدثنا مع معنيين فيه، وسألنا شبابا عن سبب العزوف عن العمل في قطاع التجزئة الذي يتم فيه تدوير مبالغ مالية تتجاوز 160 مليار ريال سنويا، ويمكن أن ينتج أكثر من 600 ألف فرصة عمل قياسا بوجود 1.4 مليون عامل أجنبي فيه .. إليكم الحلقة الثانية:
بداية أوضح الدكتور مقبل الذكير أستاذ الاقتصاد في جامعة الملك عبد العزيز أن غياب الأرقام عن عدد وحجم العمالة الوافدة التي تشغل الوظائف في قطاع التجزئة والتي يمكن إحلالها بسعوديين، يمثل عائقاً رئيساً أمام عمليات التوظيف أو فتح المشاريع الجديدة للشباب، مشيرا إلى أن السعودة ليست قرارات تكتب على الورق وإنما عمليات الإحلال يجب أن تراعي العوامل الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية للسعوديين والتي تختلف كلياً عن وضع العمالة الوافدة.
ورأى أن الحواجز الاجتماعية التي قد يحتج بها بعض الشباب اليوم لا يمكن قبولها في عصر العولمة والاقتصاد الحر، مطالبا بعدم تعميم هذه الفكرة على الجميع، حيث نجح عدد كبير من الشباب في العمل في بعض المهن التي كانت تعد غير مناسبة للسعوديين ونجحوا وبرعوا فيها وأثبتوا أنفسهم بكل اقتدار.
ولفت إلى أن الكيانات الكبيرة التي تسيطر على قطاع التجزئة في المملكة مسؤولة عن مساعدة الشباب السعودي على اقتحام هذا القطاع، ودعمهم مادياً ومعنوياً نحو النجاح والاستمرار عبر فتح عدة بقالات بنظام الفرنشاير أو الامتياز التجاري.
من جانبه ركز الدكتور رجا المرزوقي الخبير الاقتصادي على ثلاثة تحديات تواجه الشباب السعودي للدخول في قطاع التجزئة أولها: انتشار الكيانات الكبيرة وتغير أسلوب المستهلك وطريقة تسوقه، الثاني: يتمثل في احتكار موزعي التجزئة من الجاليات كل في مجاله، وبالتالي محاربة السعودي حال فتح أي مشروع له، أما العامل الثالث فهو صعوبة المنافسة في هذا القطاع وطول ساعات العمل إلى جانب انخفاض هوامش الربح فيه.
الأرقام تجلب الاستنتاجات الصحيحة
وعاد الدكتور مقبل الذكير ليشير إلى أنه ''إذا أردنا أن ننظر إلى واقع المجتمع فعلينا أن نبحث أي القطاعات الذي سيعطي فرصا أكبر وحظوظا أعلى، من الممكن وجود فرص، لكن لا توجد حظوظ للتوظيف، هذا الأمر مدخل لبعض الإجراءات العملية لتوسيع فرص العمل أمام الشباب، فإذا ما نظرنا لقطاع الخدمات مثلا يمكن بشيء من التنظيم والترتيبات المسبقة أن يفتح آفاقا واسعة والفرص للأجيال الحديثة خاصة التي ذهبت خلال برنامج ابتعاث الملك عبد الله، إذاً أحد المداخل قصير الأجل لتوظيف الشباب هو البحث عن القطاعات التي تكون فيها فرص أكبر توظيف وحظوظ أعلى''.
ويؤكد الذكير أن قطاع التجزئة من القطاعات الكبيرة جدا وهو واسع، ومن الطبيعي أن تكون الفرص فيه أكبر وأعلى، ويضيف ''الفرص في هذا القطاع نوعان، فهي إما عن طريق العمل لدى الآخرين، أو إنشاء مؤسسات صغيرة يبدأ الشباب فيها العمل، نحن لا نحتاج للمزيد من الكلام، يكفي الحديث بجمل عمومية بل نحتاج إلى أرقام كي نقيم على الاستنتاجات الصحيحة، لو عدنا للأرقام يمكن النظر كم عدد الأجانب العاملين في قطاع التجزئة، وتصنيفهم ما الأعمال والمهارات المطلوبة، هذا الأمر سيعطي دلالة كبيرة جدا''.
البطالة وأخطارها
وخلص أستاذ الاقتصاد إلى أن مسألة توظيف السعوديين فيها مشكلات ''عويصة جدا'' مبيناً أن رجال الأعمال يشتكون من عدم الجدية، لكنه استدرك بقوله ''لا شك أن هناك مشكلات يتصف بها الشاب السعودي لكن ينبغي ألا نقف عن هذه الظواهر. إذا كنا مشغولين عن مواجهة هذه المشكلة الخطيرة جدا المتمثلة في البطالة وأكثرها خطورة في البلاد العربية بين دول العالم، والتي لا يأتي بعدها سوى الدول الإفريقية، متوسط البطالة في الدول العربية يصل إلى 40 في المائة هذه قد تؤدي إلى مشكلات كبيرة وانفجار غير محمود''.
وتابع ''لذلك يجب أولاً أخذ هذا الأمر على محمل الجد وتوجيه جميع الجهود له واتخاذ جميع الإجراءات اللازمة للبدء بطرق علمية صحيحة في تأهيل الشباب وفتح فرص العمل، المعروف اقتصاديا أنه لكي تحصل على فرص عمل جديدة يجب أن تقوم باستثمارات جديدة، ولذلك نحتاج أن نعرف من واقع الخريطة المشاهدة أمامنا ما القطاعات التي يبرع بها السعوديون، نجد أن المصارف، تقدم وظائف جيدة وتستوعب السعوديين الخريجين، كذلك قطاع الخدمات فيه فرص عظيمة''.
المؤسسات الصغيرة
وقال الدكتور مقبل الذكير إن هناك بعض الصفات أو السمعة التي انتشرت عن الشباب السعودي، مشيراً إلى أنه بالتخطيط والتنظيم يمكن القضاء عليها، وأردف ''هناك تغير في المفاهيم والقيم، اليوم الشباب السعودي ليسوا هم الشباب قبل 10 أو 20 عاما، اليوم لديهم الرغبة والحافز والدافع إلى العمل، يجب ألا نتحدث عن وظائف ذات رواتب متدنية، علينا بحث العوائق التي تقف أمام استمرار مشاريع صغار المستثمرين من شبابنا ونزيلها فورا ونقدم لهم الحوافز''. ولفت أستاذ الاقتصاد إلى أن الاتحاد السوفياتي عندما انهار واجه مشكلة تعليم الروس كيفية فتح مؤسسات صغيرة خاصة بهم، وقال ''يجب أن نشجع الشباب الذين لديهم القدرة والموهبة لفتح مشاريع صغيرة وبحث المعوقات التي تواجههم، وأن يكون هناك إيمان شديد لدى المسؤولين بأن هذه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة مهمة جدا لصحة الاقتصاد والاستقرار الاجتماعي ويدافعوا عنها بكل ما أوتوا من قوة ولا ينبغي أن تترك''.
كفى سعودة قرارات
الذكير قال بصراحة ''أنا لا أؤمن بسعودة القرارات، الناس أدرى بمصالحهم، الشاب إذا وجد عمله في بقالة مقنعا بالنسبة له سيندفع ويبدأ، لكن العاملين في البقالات حاليا لا يمكن مقارنة أوضاعهم بأوضاع الشاب السعودي، وبعضهم قد يكون صاحب البقالة سعوديا من حيث المظهر لكن العمالة هم أنشأوا هذه البقالة ولديهم استعداد للعمل ساعات طويلة، لا ينبغي تعميم الأمور وأخذ البقالات كنموذج لعمل الشباب، ربما في السوبر ماركت الكبيرة تتوافر وظائف ذات دخل مغر للشباب السعودي ويرتقون فيها في درجات العمل حتى يصلوا للإدارة التنفيذية''.
وعاب الدكتور الذكير على بعض الشباب المهنيين خصوصاً الاتكال بشكل مبالغ فيه على العمالة الوافدة في محالهم، وقال ''حتى المهنيين من الشباب مثل الكهربائي أو غيره إذا فتح محلا له جلب عاملا يديره، ينبغي حصر الظواهر وبحث أسبابها ثم النظر ماذا يمكننا عمله تجاهها والسياسات التي يمكن أن تشجع على تخفيض وجلب العمالة الأجنبية وتغري السعوديين للعمل في هذه القطاعات، يكفينا كلام عام، نحتاج إلى إجراءات وسياسات مبنية على وقائع وحقائق وأرقام وإحصاءات هذا هو السبيل الوحيد للتعرف على المشكلات وحلها''.
الكيانات الكبيرة تقلص مساحة ربح البقالات
في السياق ذاته طرح المرزوقي تساؤلاً مغايراً بقوله ''هل فعلا قطاع التجزئة لدينا يتوسع أم يتقلص اليوم بدخول الكيانات الكبيرة مثل ''كارفور'' و''بندة'' و''العثيم'' وغيرها! نحن ننادي إلى قطاع في الأصل يتلاشى، ولذلك نحتاج إلى دراسة أساس المشكلة أو السؤال المطروح''.
ويواصل ''المشكلة في قطاع التجزئة أن أذواق المستهلكين بدأت تتجه إلى ما يسمى بالاحتكار الإجباري عبر التوجه نحو الكيانات الكبيرة، ربما آباؤنا وأجدادنا كانوا يأخذون احتياجاتهم من البقالة، اليوم العائلة السعودية اختلفت توجهاتها فأصبحت هذه الكيانات هي الأماكن المفضلة للتسوق، الأمر الذي يجعل بقالات المواد الغذائية هامشيا مقارنة بهذه الكيانات''.
بقالات الفرنشايز
وأشار الدكتور رجا المرزوقي إلى أن معالجة هذه المسألة يمكن أن تكون عبر تبني الكيانات الكبيرة في مجال التجزئة للشباب السعودي وفتح محال صغيرة على شكل بقالات داخل الأحياء ودعمهم بإعطائهم حقوق الامتياز التجاري (الفرنشايز).
وتابع ''القضية ليس اجتماعية أو ثقافية، من كان يدير البقالات الصغيرة قبل عقدين من الآن؟ قبل أن تطغى الكيانات الضخمة، في أعقاب أزمة الخليج شغلها السعوديون، ثم طغت الكيانات الكبيرة وأصبحت البقالات غير مربحة وغير مجدية لهم، لكن ذلك لا يجعلها من الأشياء التي يعاب الشخص عليها، هناك فرق بين من يملك بقالة ويديرها وبين من يعمل في البقالة كعامل''.
3 عوامل تواجه الشباب
وطرح الدكتور رجا ثلاثة عوامل رئيسة يرى أنها تؤثر في مستقبل الشباب السعودي في مجال التجزئة، وأوضح ''المشكلة ذات أبعاد ثلاثة، أولها انتشار الكيانات الكبيرة وتوسعها، وتغير ذائقة المستهلكين وتوجههم لها، واحتكار موزعي التجزئة من جاليات بعينها، وبالتالي محاربة أي سعودي يرغب الدخول هذا المجال أو غيره بعد أن يجد نفسه في سوق تنافسية غير عادل. وقال إن وجود الكيانات الكبيرة جعل البقالات ليست أساسية على خريطة العائلة السعودية، مما صعب المنافسة وجعل الهوامش الربحية ضعيفة''.