القرن الإفريقي.. إعادة تشكيل وصياغة جيوستراتيجية وتحالفات إقليمية ودولية جديدة

توقفت ملياً عند تقرير المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في الصومال السفير أوغسطين ماهيجا الذي قدمه يوم الجمعة الماضي (14 كانون الثاني (يناير) 2011) إلى مجلس الأمن الدولي. إذ لا يزال المجتمع الدولي ينظر إلى المسألة الصومالية منذ عام 1991 حتى اليوم من خلال منظور أمني ضيق. فقد أضحت غاية الأمم المتحدة هي أن تسيطر قوات حفظ السلام الإفريقية (أميسوم) على العاصمة مقديشو بعد أن تقوم بطرد قوات شباب المجاهدين منها.
ويبدو من قراءة هذا التقرير الذي قدمه السفير ماهيجا إلى مجلس الأمن أن الهاجس الأساسي الذي يقلق القوى الكبرى هو أن تتحول الصومال إلى ملاذ آمن للمقاتلين الأجانب وجميع الجماعات الجهادية التي تؤمن بأفكار تنظيم القاعدة، وهو الأمر الذي يقوض دعائم الأمن والاستقرار الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي.
ويلاحظ أن أزمة الصومال المستعصية تعكس طبيعة الصراعات المعقدة والممتدة التي تشهدها منطقة القرن الإفريقي منذ أمد بعيد. وقد دفع ذلك ببعض الباحثين إلى القول إن هذه المنطقة تجسد منطق "المركب الصراعي" بالغ التعقيد. إذ تشهد أنماطاً من الحروب الأهلية والإقليمية والنزاعات الحدودية، والتوترات القبلية، فضلاً عن الصراعات على الموارد الطبيعية.. وهكذا. وربما دفع ذلك كله بمنظمات وهيئات الإغاثة الدولية إلى اعتبار القرن الإفريقي يعيش حالة "طوارئ دائمة"، تجعله في حاجة ماسة إلى العون الإنساني والإغاثي. ويبدو أن الصور الذهنية التي تروج لها وسائل الإعلام الغربية والدولية أضحت تقارب بين الإقليم والمجاعة‏، حتى إنه بات يعرف باسم قرن المجاعة‏.
وعلى الرغم من ذلك، فإن القرن الإفريقي يتمتع بمكانة استراتيجية لا تضاهى. إذ إنه يمثل نقطة التقاء لعوالم استراتيجية ثلاثة هي الشرق الأوسط وإفريقيا والمحيط الهندي بما يجعله مصدراً وطريقاً لنقل الأفكار والسلع عبر هذه المناطق. كما أنه يمثل ممرا وبوابة للبحر الأحمر وخليج عدن‏,‏ إضافة إلى الخليج العربي والمحيط الهندي‏,‏ وهو الأمر الذي جعله لقرون طويلة ـــ ولا يزال ـــ محط اهتمام القوى الدولية المسيطرة‏. وعلى هذا، فإن التدخلات الدولية من أجل السيطرة والنفوذ هي التي حددت بشكل كبير تطور الأحداث ومآلاتها في المنطقة. بيد أن درجة ومستوى هذه التدخلات تباينت من فترة زمنية لأخرى.‏ وقد شكلت الصراعات التي شهدتها السودان وإثيوبيا وإرتريا والصومال تجسيدا واضحا لدور المتغيرات الخارجية وذلك على مر عقود طويلة.

التدافع الدولي على القرن الإفريقي
نظراً لتلك المكانة الاستراتيجية للقرن الإفريقي، فقد سعت القوى الكبرى المسيطرة في النظام الدولي إلى التدافع عليه من أجل كسب مناطق نفوذ لها هناك، إما سلماً من خلال العلاقات الوثيقة مع نظم الحكم في المنطقة، أو كرهاً من خلال استخدام القوة المادية. ففي مرحلة التكالب الدولي على إفريقيا خلال العقدين الأخيرين من القرن الـ19 تنافست كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا من أجل السيطرة على المنطقة. وخلال فترة الحرب الباردة كانت المنافسة حامية الوطيس بين كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وذلك لكسب ولاء أنظمة الحكم الوطنية في هذه المنطقة المهمة من العالم. ولا أدل على ذلك من تغير توجهات السياسة الخارجية لدول مثل السودان والصومال وإثيوبيا واليمن.
وبعد انتهاء فترة الحرب الباردة عانت منطقة القرن الإفريقي الفوضى وعدم الاستقرار، حيث شهدت مظاهر ترتبط بنموذج "الدولة الفاشلة"، مثل القرصنة، والجماعات الجهادية الراديكالية التي تؤمن بالعنف وسيلة لتغيير النظام الحاكم، أو أنها تسعى إلى تأسيس دولة الإمارة الإسلامية، كما هو الحال بالنسبة لنموذج جماعة شباب المجاهدين في الصومال. ولعل ذلك كله أدى إلى تكريس حالة التدافع الدولي على المنطقة، وذلك تحت زعم محاربة الإرهاب التي أضحت عنواناً بارزاً يميز سياسات القوى الكبرى في مرحلة ما بعد 11 من أيلول (سبتمبر).

مناطق الاستقرار النسبي
يمكن النظر إلى كل من جيبوتي وإثيوبيا باعتبار أنهما يمثلان نموذجاً للاستقرار النسبي وسط بيئة تعاني الفوضى وعدم الاستقرار وغياب الأمن في كثير من المناطق. إنه لا يمكن التغاضي عن نمط الحكم الأوتوقراطي لكل من الرئيس عمر جيلة في جيبوتي ورئيس الوزراء ميليس زناوي في إثيوبيا، حيث تراجع كل منهما عن وعوده السابقة بالتخلي عن السلطة، وقاما عوضاً عن ذلك بتفتيت المعارضة وسرقة نتائج الانتخابات. أما إرتريا في ظل زعامة أسياسي أفورقي فإنها تطرح نموذج كوريا الشمالية نفسه في الواقع الإفريقي من حيث غياب المعارضة الداخلية وتكريس نمط عبادة شخص الحاكم. وتعاني إرتريا عزلة دولية لكونها "دولة عاصية" نظراً لوقوفها إلى جانب قوى المعارضة الإسلامية في الصومال.
ويمكن للسودان بعد حسم مسألة الجنوب والتعامل السلمي مع نتائج الاستفتاء حول تقرير مصير الجنوبيين، أن يرتب أوضاع بيته من الداخل ولا سيما مسألة دارفور. وفي هذه الحالة، يمكن الحديث عن دولة سودانية مستقرة في الشمال. وتبدو مؤشرات ذلك واضحة من الإغراءات التي تقدمها إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لحكومة الخرطوم لحثها على قبول طلاق سلمي لجنوب السودان. ومن المتصور في هذه الحالة رفع اسم السودان من على قائمة الدول التي ترعى الإرهاب، وربما يتم تجميد قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس عمر البشير.

نحو توازن إقليمي جديد
على الرغم من بؤر التوتر والصراع التي تشهدها منطقة القرن الإفريقي، فإن عام 2011 يبشر بإعادة رسم خريطة التوازن الإقليمي في المنطقة، وربما يكون ذلك في غير مصلحة النظام الإقليمي العربي. ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى أمرين مهمين، أولهما: التعامل مع جمهورية أرض الصومال بمنطق الاعتراف الواقعي بوصفها بديلاً عن الدولة الأم. فقد أضحت دول الجوار الإفريقية تتبنى منظوراً واقعياً وعملياً في التعامل مع الأزمة الصومالية. إذ بدأت مجموعة الهيئة الحكومية للتنمية المعروفة باسم (إيغاد) تقبل تدريجياً الحقيقة المؤلمة، وهي أن الحكومة الصومالية الانتقالية بزعامة شيخ شريف لا تمثل أحداً في الداخل الصومالي، وهو ما يجعلها غير قادرة على هزيمة المعارضة الإسلامية التي تسيطر على معظم أنحاء الصومال، كما أنها تقف عاجزة عن القيام بدور حقيقي نحو المصالحة الوطنية. ولعل فشل منطق المصالحة الفوقي الذي انتهجته الصومال منذ عام 1991 يختلف تماماً عن المنظور القاعدي والشعبي الذي تبنته "أرض الصومال" منذ البداية وأدى إلى تحقيق السلام والاستقرار. وعليه، فقد اتجهت دول إفريقية عديدة مثل إثيوبيا وكينيا وبوروندي وجنوب إفريقيا وغانا والسنغال إلى التعامل بمنطق الاعتراف الواقعي بجمهورية أرض الصومال. وبعد الانتخابات الرئاسية التي عقدت في حزيران (يونيو) من العام الماضي، وأدت إلى فوز مرشح المعارضة أحمد محمود سيلانيو أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أنهما سيتعاملان بشكل مباشر مع جمهورية أرض الصومال. ولا يخفى أن نموذج "أرض الصومال" لكونها تطرح المثال الوحيد لديموقراطية التعدد الحزبي في القرن الإفريقي يجعلها قريبة من الاعتراف الدولي. ففي كانون الأول (ديسمبر) الماضي زار وفد من منظمة "الإيغاد" هرجيسيا، وأجرى محادثات مع المسؤولين هناك، بل والأكثر من ذلك طلب من الحكومة إرسال وفد من المراقبين يمثلون أرض الصومال في استفتاء جنوب السودان. ويبدو أن كل هذه التحركات تحدث والعالم العربي يدفن رأسه في الرمال فلا يحرك ساكناً.
ثانياً: إمكانية ظهور دولة جنوب السودان المستقلة لكونها فاعلاً جديداً في منطقة القرن الإفريقي، وهو ما يعني تغير وتبدل طبيعة الأدوار الإقليمية. إذ تصبح دولة جنوب السودان بتوجهها الإفريقي أقرب إلى إثيوبيا وكينيا، وهو ما يجعلها ذات تأثير بالغ على معادلة توزيع مياه نهر النيل. ونظراً لحالة العداوة التقليدية بين إرتريا وإثيوبيا، فإن السياسة المصرية عملت دوماً على إقامة توازن إقليمي لمواجهة إثيوبيا، حيث حظيت مصر دوماً بدعم السودان. على أن وجود دولة جنوب السودان في هذه المعادلة يؤدي إلى إعادة النظر في طبيعة التحالفات القائمة.
وأحسب أن انفصال جنوب السودان سيمثل إضافة استراتيجية مهمة لإثيوبيا على حساب مصر، وربما كانت القيادة المصرية على وعي بهذه الحقيقة عندما حاولت عبثاً من خلال الدبلوماسية الأمريكية تأجيل استفتاء جنوب السودان لعدة سنوات. وقد أفادت تسريبات "ويكيليكس" بأن مدير المخابرات العامة المصرية اللواء عمر سليمان قال للأدميرال مايك مولين رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي إن "مصر لا تريد تقسيم السودان". ومن الواضح أن القيادة المصرية كانت تخشى من أن يؤدي انفصال جنوب السودان إلى وجود "دولة فاشلة" أخرى غير قابلة للحياة، ويمكن أن تهدد وصول مصر إلى موارد مياه النيل أو تؤثر سلباً في إيرادات مصر من قناة السويس.
وبعد، فإن ما يحدث من تطورات متلاحقة على أطراف النظام الإقليمي العربي في امتداداته الإفريقية ينذر بوجود تهديدات خطيرة لمنظومة الأمن القومي العربي، وإنها ستؤثر يقيناً في أمن البحر الأحمر وتدفق مياه النيل إلى كل من السودان ومصر. لقد تم ترتيب وحسم أزمة جنوب السودان إفريقيا برعاية من منظمة "الإيغاد". وها هي أوغندة وبوروندي تقومان بعملية حفظ السلام في الصومال. كما أن دولاً إفريقية كبرى مثل إثيوبيا وجنوب إفريقيا والسنغال باتت من أبرز المؤيدين لجمهورية أرض الصومال داخل الاتحاد الإفريقي. ويبدو أن الولايات المتحدة والدول الغربية أضحت تفضل الحل الإفريقي على الحل العربي بالنسبة لمناطق التوتر والتأزم على خط التماس العربي الإفريقي. إن ما يحدث في منطقة القرن الإفريقي من تفاعلات وتجاذبات سيفضي لا محالة إلى إعادة تشكيله وصياغته من الناحية الجيوستراتيجية، حيث يعكس طبيعة التحالفات الإقليمية والدولية الجديدة. وأظن أن هذا التغير سيكون معادياً للمد العربي والإسلامي في المنطقة. فهل يفيق العرب من نومهم العميق ويتأملون بوعي فيما يحدث في مناطق الأركان التي يقوم عليها نظامهم الإقليمي؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي