العرب وعصر الديموقراطية الافتراضية: دروس من الحالتين التونسية والمصرية
إن الثورة الحادثة في مجال الإنترنت وغيره من تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات قد أدت إلى خلق فضاءات جديدة في مجال المشاركة السياسية وهو ما يعني تمكين جماعات جديدة من الانخراط في العمل والنشاط السياسي، أي أن المحصلة العامة تكون بمثابة توسيع دائرة المشاركة السياسية في المجتمع. وعلى أية حال فإن الولوج إلى عالم الإنترنت قد يؤدي إلى تعبئة بعض المواطنين سياسيا مما يعني بالتبعية زيادة انخراطهم في مجالات سياسية معينة. وقد ظهر ذلك واضحا في أعمال الاحتجاج الجماهيري غير المسبوقة في كل من تونس ومصر. بيد أنه في الوقت نفسه يمكن للنخب السياسية المهيمنة أن تستخدم هي الأخرى الإنترنت من منظور استراتيجي بهدف دعم وتأييد خياراتها ومواقفها السياسية العامة. ويمكن القول تحديدا إن وسائل الإعلام الجديدة مثل شبكات التفاعل الاجتماعي عبر الإنترنت قد أدت خلال فترة وجيزة إلى خلق وعي عالمي عام ولا سيما بين الشباب وصغار السن الذين كانوا يعزفون عادة عن المشاركة في الحياة العامة والأنماط التقليدية للسياسة. ولنا أن نتصور على سبيل المثال أن عدد مستخدمي موقع التفاعل الاجتماعي (فيسبوك) يبلغ نحو نصف مليار شخص وهو ما يجعله بمثابة دولة افتراضية كبرى تحتل المرتبة الثالثة في العالم بعد كل من الصين والهند.
جدلية العلاقة بين الإنترنت والمشاركة السياسية
إن عملية تقويم العلاقة بين تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة وبين المشاركة السياسية، تتطلب اهتماما علميا أعمق بهدف التحقق من العلاقة السببية وإقامة توازن دقيق بين الآثار الإيجابية والسلبية للتكنولوجيا وذلك في سياقات مختلفة. وعلى سبيل المثال نستطيع القول من خلال خبرتنا الذاتية ودراستنا الطويلة لعملية المشاركة السياسية في الوطن العربي ولا سيما الحالة المصرية أن أهم عوامل عزوف الأفراد عن العمل السياسي تتمثل في ثلاثة أسباب رئيسة هي: عدم وجود الدافع ، وافتقاد القدرة والموارد اللازمة، وعدم وجود فرص حقيقية. هنا يمكن ملاحظة التطور الهائل والفارق الذي أحدثه الإنترنت والفضاء الإلكتروني العام على تغيير هذه العوائق الخاصة بالمشاركة الاجتماعية ومن بينها السياسية.
فمن جهة أولى قد لا يبدو لأول وهلة أن تأثير الإنترنت في مجال الاتصال والمعلومات يكون له قيمة كبيرة في مجال تغيير الدوافع الفردية، حيث إن هذه الدوافع تتحدد بشكل كبير من خلال الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتي تفسر طبيعة المشاركة السياسية في المجتمع. ومع ذلك يمكننا القول بأن قراءة الأخبار الإلكترونية تسهم في بناء الاهتمام والمعرفة السياسية لدى المواطنين، وهو ما يمثل حافزا مهما لزيادة المشاركة السياسية. إن وسائل الإعلام الاجتماعية لم تسمح فقط بتبادل وجهات النظر، ولكنها أعطت المثقفين الفرصة أيضا للتعبير عن آرائهم بقوة أكبر.
ومن جهة ثانية، فإن الإنترنت قد يساعد الأفراد على المشاركة بطرق مختلقة ومتعددة. فقد وفرت الوسائل الإلكترونية مجالا مهما للتأثير السياسي. بيد أن السؤال يظل هو من يقف وراء هذه الوسائل؟ هل هم الأفراد أنفسهم الذين استخدموا الوسائل التقليدية من قبل؟. على أن التساؤل الأكثر أهمية يتعلق بمدى مساهمة الإنترنت في إكساب الأفراد مهارات المشاركة المدنية والسياسية. ويبدو أن المنتديات والمواقع الحوارية على الإنترنت تسهم بشكل فاعل في تنمية مثل هذه المهارات لدى المواطنين. كما أن الإنترنت يساعد على تسهيل العمل الجماعي بكفاءة أعلى وتكلفة أقل.
ومن جهة ثالثة، فقد طرح عالم الإنترنت فرصا جديدة للمشاركة السياسية من خلال حملات الاحتجاج أو التأييد عبر المنتديات والمدونات. على أن فرص المشاركة التي تدعمها الحكومة ظلت محدودة. فمواقع الحكومات الإلكترونية يتم تصميمها على أساس تقديم معلومات أو خدمات، وهو ما يعني النظر إلى المواطنين باعتبارهم زبائن وليسوا مشاركين في القرار الحكومي. ونستطيع القول إن الإنترنت قد وفر طرائق ومسالك جديدة ومتعددة للمشاركة السياسية. إذ يمكن للمواطنين استخدام: البريد الإلكتروني Emails والمدونات Blogs وجماعات النقاش discussion group والدردشة الإلكترونية Chat والرسائل الإلكترونية السريعةinstant messages، وما إلى ذلك من خدمات إلكترونية مباشرة تمكن الأفراد والجماعات من الاتصال ببعضهم بعضا ولا سيما من يحملون الأفكار والمعتقدات السياسية نفسها. وعليه يستطيع هؤلاء تبادل الآراء وإسماع أصواتهم للآخرين.
ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أهمية المدونات الإلكترونية التي يقوم بها أفراد عاديون في المجتمع وكيف أنها أضحت أحد المصادر المؤثرة للحصول على المعلومات والتعليق على الأحداث السياسية. ولا شك أن هذه الظاهرة أحدثت تحولا كبيرا في الدول العربية بسبب طبيعة النظم السياسية السائدة، وهو ما انعكس على رد الفعل الحكومي الصارم في هذه الدول ضد المدونين، بل و النظر إليهم باعتبارهم في كثير من الأحيان مصدر تهديد للأمن القومي!
التحول في آليات النشاط السياسي
تتجه كثير من الأحزاب والتنظيمات السياسية الفاعلة في المجتمع إلى استخدام الإنترنت والتعويل عليه في الترويج لمبادئها وتجنيد مساندين لأنشطها من خلال مواقعها الإلكترونية على الشبكة الدولية، وكذلك عن طريق إعداد قوائم بريدية إلكترونية تمكن من الاتصال المباشر مع الجماهير المستهدفة. وقد استطاع "هاورد دين" أحد مرشحي الرئاسة الأمريكية عام 2004 أن ينافس بجدية من أجل الفوز بترشيح حزبه بواسطة الإنترنت، إذ تمكن أنصاره من خلال مدوناتهم الإلكترونية حشد التأييد الجماهيري وجمع التبرعات بشكل ملحوظ ومقارنة بباقي المرشحين في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي. وربما اتضح دور الإنترنت بجلاء أكثر في الانتخابات الرئاسية عام 2008، حيث تمكن باراك أوباما من حشد التأييد الشعبي ولا سيما بين شرائح الشباب وصغار السن في المجتمع الأمريكي، إضافة إلى جمع التمويل اللازم لإدارة الحملة الانتخابية من خلال بعض المواقع الإلكترونية مثل "يوتيوب" You tube و"الفيس بوك" Face book و"ماي سبيس" My Space.
ومنذ الدعوة التي قام بها الشباب والمدونون في مصر للإضراب العام في السادس من نيسان (أبريل) 2008 كعمل احتجاجي ضد السياسات الحكومية المتبعة أضحت هناك حركة سياسية جديدة في مصر تحمل عنوان "حركة 6 أبريل" تعبر عن طموحات وتطلعات جيل الإنترنت. وقد تمكنت هذه الحركة وغيرها من الجماعات التي انطلقت من الفضاء الإلكتروني أن تقود ثورة شعبية عارمة لم يشهد لها مثيلا التاريخ المصري الحديث منذ ثورة يوليو 1952.
الإنترنت وعصر الديموقراطية الافتراضية
على الرغم من كل ما سبق فإن بعض الانتقادات ترى أن الإنترنت لا يقوى وحده على تغيير حقائق الواقع الاجتماعي والسياسي للأفراد داخل مجتمعاتهم. فاستخدام الإنترنت سيؤدي إلى تعزيز وتكريس الأنماط السائدة للمشاركة السياسية في المجتمع، بل وربما يؤدى إلى تعميق الفجوة بين الشرائح النشطة سياسيا والشرائح الأقل نشاطا وكذلك الفجوة بين النشطين والخاملين سياسيا. وعلى سبيل المثال نلاحظ أن الشرائح الأكثر استخداما للإنترنت هي صغار السن والأكثر تعلما وثقافة والأكثر نشاطا من الناحية السياسية. يعني ذلك أن الإنترنت يمكنه أن يعيد إنتاج الأنماط السائدة للمشاركة السائدة في المجتمع.
ومع ذلك فإن هناك من يرى بأن استخدام الإنترنت سيؤدي إلى خلق أنماط جديدة للمشاركة ويدفع بالشرائح الخاملة سياسيا إلى مجال الاهتمام والفعل السياسي. وربما دفع ذلك البعض إلى القول بأن عصر الثورة الرقمية سيشهد تأسيس نمط من الديموقراطية الافتراضية التي توسع من فرص المشاركة المدنية والسياسية وهو ما يفضي إلى ظهور المجتمع الافتراضي. فالإنترنت يمكنه دعم وتعزيز الديموقراطية من خلال عدة أمور أولها: تسهيل الحصول على المعلومات ونشرها، وهو ما يساعد على تعبئة الجماهير وتحريكها ودعم رأس المال الاجتماعي. وثانيا طرح فضاءات جديدة للنقاش والحوار السياسي، وهو ما قد يساعد على سد الفجوة بين الحكام والمحكومين. وثالثا إزالة العوائق المادية والجغرافية للمشاركة، فالإنترنت يوفر الجهد والمال وهو ما يضفي قدرا من المساواة في الحياة العامة.
يعني ذلك كله أنه يمكن للفئات المهمشة أو التي تعزف تقليديا عن المشاركة مثل الشباب والأقليات السياسية والاجتماعية، أن تلج إلى عالم السياسة وهو ما يعني بدوره أن القدرة على المشاركة الفعالة من خلال الإنترنت ستزداد بشكل ملحوظ.
دروس وعبر
وبعد فإنه ينبغي التدبر في الدرسين التونسي والمصري بعناية كبيرة من جانب النظم الحاكمة في العالم العربي، والتي تزعم أن الاستقرار والتنمية يأتي من خلال القمع وتكميم أفواه الجماهير. فقد قام نظام الرئيس بن علي في تونس بحجب مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت وبعض المواقع الإخبارية المهمة، كما أن النظام المصري بعد انتفاضة 25 كانون الثاني (يناير) الماضي قام بإيقاف خدمة الإنترنت والهواتف الجوالة في أرجاء البلاد، غير أن ذلك لم يجد نفعا بعد أن اشتعل لهيب الاحتجاجات الشعبية. ولا أظن أن المناورات السياسية التي يستخدمها بعض الحكام ويستغلون من خلالها الخوف من سيطرة العناصر المتطرفة والإرهابية على مقاليد الحكم تستقيم ومنطق الأمور السليم. فالفضاءات الجديدة التي خلقتها ثورة الاتصالات والمعلومات استطاعت أن تكشف عورات هذه النظم وتحرك الجماهير من أجل المطالبة بالتغيير والإصلاح.
إن الدرس الأول الذي نتعلمه من الحالتين التونسية والمصرية هو أن الثورة وعمليات الاحتجاج الجماهيري ممكنة ويصعب تجنبها في مناطق أخرى من العالم العربي، وخصوصا تلك التي تعاني ارتفاع نسبة البطالة، وتفشي الفساد، وغياب المشاركة السياسية الحقيقية، وارتفاع الأسعار، وغيرها من العوامل الدافعة إلى الإحباط والتمرد. من جهة ثانية، لابد من الإعلان رسميا عن موت السياسة بمعناها التقليدي وتغيير آليات الممارسة السياسية العربية لتتفق ومعطيات الثورة التكنولوجية والمعلوماتية الجديدة. ولعل ذلك يفرض من جهة ثالثة ضرورة استيعاب القوى السياسية الجديدة غير التقليدية والتي يمثلها جيل الشباب الذي ترعرع في عصر الإنترنت والفضاء الإلكتروني. ولعل ذلك كله يفرض على النظم العربية ضرورة الانفتاح والتغيير لتصبح أكثر شمولا واستيعابا لهذه الشرائح الجديدة.
لقد حان وقت التغيير ولن تعود عقارب الساعة للوراء أبدا. فهل يعي حكامنا الدرس ويحسون بنبض الجماهير قبل فوات الأوان، أم أنهم سيكررون تجربة بن علي فيفهمون ولكن في الوقت الضائع؟