امتيازات مناهج المذاهب الفقهية وأثرها في التفكير القانوني
هذا الموضوع كتبته قبل فترة طويلة بعد قراءة كتب متخصصة في المقاصد الشرعية، وتطوير الفكر الفقهي، والخطاب الشرعي، وبعد تأمل في أثر ذلك في الحياة العامة ومنها الحياة القانونية، وبعد تنقيح وصياغة الفكرة التي أنشدها آثرت نشرها، وقبل الدخول في هذا الموضوع ليعذرني القارئ الكريم على الأسلوب التخصصي في نمط هذا المقال، لكن أجد نفسي مضطرا لهذا الأسلوب لحاجة المتخصصين إليه. وأقول تنطلق المذاهب الفقهية في استراتيجيتها المنهجية من خلال اعتبار القرآن والسنة أصل الأصول التي تقوم عليها الأسس المذهبية في شتى مدارس الفقه الإسلامي، ومناهج وطرائق الأئمة متقاربة في الوصول إلى استخراج الأحكام التفصيلية من أدلتها الإجمالية؛ ولذلك ارتبط بالأئمة الأتباع وأصبح المذهب هو التفريعات على الأصول والتخريج عليها، سواء أطابقت الفروع التي خرجها الإمام أم خالفتها.
لذلك يمكن القول إن اتفاق المذاهب ووحدتها أو اختلافها إنما يرجع إلى كونها متفقة في الأصول أو متخالفة في الأصول لا على المقالات الفرعية التي قد يختلف الفقيهان أو أكثر فيها.
ومن خلال استقراء العلماء لمناهج الأئمة، تبين أن المذاهب الثلاثة المالكية والشافعية والحنابلة تعتمد في أسلوبها على المنهج التركيبي في تعاطيها مع النصوص، ويتضح هذا المنهج عند تحليل النص الشرعي من زاوية الحمل إلى المحكم أو المتشابه أو إلى نص ظاهر من جهة ومجمل ومؤول من جهة، وإلى أدلة عقلية ونقلية ويقارنها بكونها مقاصد أو وسائل ليزاوج بين هذه العناصر ويخرج بنتائج متكاملة من حيث النظرة الجزئية والنظرة الكلية بحيث يتولد لدى القارئ المتأمل أن هذه الأصول إنما جاءت عن طريق استقراء الجزئيات؛ لذلك نجد أن النظريات القانونية استفادت من هذا المنهج التركيبي في التطور الفكري للدراسات الفقهية، وجاءت النظريات من خلال دراسة استقرائية لجزئيات مترابطة في المعنى، ولهذا فإن كثرة التفريعات الفقهية وربطها بالمقاصد والوسائل يجعلها تسير وفق منظومة واحدة وينتج من ذلك تراكم معرفي متناسق بين الجزئيات التفصيلية والكليات العامة.
وإذا نظرت إلى الأصول التي يقاس عليها والتراكمات المعرفية الحاصلة منها يمكن القول إن هذه التراكمات هي أصول متجددة يمكن القياس عليها، فالفرع يقاس على الأصل عندما تثبت فيه العلة، والأمر كذلك بالنسبة للفرع الثاني والثالث، وبذلك تتكاثر الأصول التي يقاس عليها، ولا يخفى على القارئ الكريم أن كثرة الأصول تساعد المشرع كثيرا على استيعاب النوازل والأحداث، وقل مثل ذلك في القانون؛ فكثرة الأصول القانونية يساعد أصحاب الاختصاص على توسعة الملكة القانونية واستيعاب الثغرات النظامية بما يتواءم مع روح القانون واستقراره.
وهذا المنهج أقدر على التعامل مع المستجدات المعاصرة، سواء في النوازل الفقهية أو المستجدات النظامية. أما المنهج الآخر في مذاهب الفقه الإسلامي فهو المنهج التحليلي، وهذا ما يعتمده الحنفية في دراستهم المذهبية، فالمنهج التحليلي يعتمد في الوصول إلى الغرض من خلال الخطاب الشرعي ذاته، أي ينطلقون من الخطاب الشرعي إلى العناصر المكونة له، بحيث يردون الخطاب من زاوية الوضع إلى: العام، والخاص والمشترك ومن زاوية الاستعمال إلى الحقيقة والمجاز من جهة والصريح والكناية من جهة أخرى، وعلى هذا يسيرون، ولهذا المنهج مثيل في القانون فيعتمد أصحابه على المادة النظامية دون النظر إلى المعنى الكلي للنظام أو المعاني الأصلية للنظام العام مثل العدل والمساواة؛ ولذلك يتمسك بعض أصحاب هذا المنهج بالنص المقيد بكل مكوناته دون ربطه بمقاصده، وأضع لذلك مثالا توضيحيا مثل الجوازية في النظام، فالإجازات تمنح بسلطة جوازية من قبل المسؤول الإداري، وإذا رفض المسؤول منح هذه الإجازة، فالقاضي الإداري الذي يعتمد المنهج التحليل يحكم برفض الدعوى؛ لأن للمنظم الحق في سلطته الجوازية بينما يعمد القاضي الإداري المحترف الذي يعتمد المنهج التركيبي إلى مقارنة النص النظامي بالجواز مع مبادئ العدل والحق النسبي ومقارنة كل ذلك بقرار رفض المسؤول، ومع انعدام وصف المناسبة بين قرار الرفض ومبادئ العدل والحق النسبي فيحكم بإلغاء قرار رفض الإجازة؛ لأنها في الأصل حق نسبي وإن كان منحها ابتداءً من قبيل السلطة الجوازية.
ومن يتأمل الأصول التي يعتمدها المنهج التركيبي يجد أن أهم ما يميزها هو انطلاقها من معنى المصلحة سواء ألبست المصلحة لبوس القياس وحملت اسمه أم ظهرت في ثوب الاستحسان وحملت عنوانه، أم كانت مصلحة مرسلة لا تحمل غير اسمها ولا تأخذ غير عنوانها؛ فالمصالح دعامة الفقه في الاستدلال، وبتعبير آخر يقرر الشيخ محمد أبو زهرة - رحمه الله - ''إن هذا المنهج يعد معمولا به في تفسير القوانين الوضعية، فإن أحكام القضاة قد تبنى على أقيسة، واستخراج علل النصوص القانونية والبناء عليها، وأن هذه الأحكام قد تقررها محكمة النقض فإذا قررتها تصير مبادئ قانونية يمكن القياس عليها، وتطبق على مقتضاها من غير نظر إلى أصلها من نصوص القانون'' أصول الفقه ص 232.
وهذا يؤكد أن المواد النظامية إنما جاءت للتنظيم والإرشاد ولم تأت قط لحشر الناس في قوالب ضيقة لا محيد عنها.
وأعلم أن هذا البعد العام في هذه الأصول قد لا يكون منطبقا بتمامه على ما يجرى العمل به في الجهات الاستشارية أو الجهات القضائية، ولعل هذا المقال أن يكون لبنة في بناء الوعي بحيث نكتشف كثيرا من القوانين من خلال قراءتنا المتأملة في الخطاب الشرعي أو النص النظامي وهذه القراءات الهادئة هي تراكمات معرفية ستصبح على مر الأزمان قوانين معتبرة إما عن مصالح تجلب ويجلب أمثالها أو مفاسد تدرأ ويدرأ أمثالها.
وعند حصول هذا التطور المعرفي سنكون - بإذن الله - منارة أكثر تميزا للعالم في العملية القضائية والعملية التشريعية وكل ما هو عائد نفعه على الفرد والمجتمع.