الشرعية والمشروعية في مصر

مفهوم الشرعية للحكم في مصر حتى ما قبل ثورة 25 يناير، كان يستند إلى ثورة 23 يوليو 1952، أياً كان الموقف منها وتباين الرأي بشأنها، فهناك من يراها مجرد انقلاب، أو حركة جيش. وهناك من يراها ثورة غير تقليدية، إلا أنها تظل المنعطف الكبير والرقم الصعب في تاريخ مصر المعاصرة، حتى الثورة الشعبية الأخيرة التي تمثل خط التصاعد والانعتاق منها.
المقصود بالشرعية هو المرجعية الفلسفيةPhilosopic Legitimacy) (Values أو الأساس النظري الثابت لتبرير الحكم، في حين أن المشروعية Political Legality Codes) تعبير عن التحولات السياسية، وقد اتخذت صورتها النهائية بتقنين الممارسة وقبول الشعب بتسويقها له. من هنا؛ فإن شرعية يوليو نفسها وفرت أكثر من مشروعية لتحولات الحكم في مصر. الرئيس السادات كان قد تنبأ بأن ناصر وشخصه، هما آخر فرعونين في مصر، وكان ما يعنيه أنهما آخر حاكمين "كاريزميين" فيها، وقد صدق. استعراض حكم عبد الناصر على خلفية شرعية ثورة يوليو، يكشف لنا عن أكثر من مشروعية طوال سنوات حكمه من 1954 ـــــ 1970. الغاية هي أن الشرعية التي تجمع ما بين الرؤساء الثلاثة: ناصر والسادات ومبارك واحدة، لكن مشروعيات الحكم تميّز تماماً ما بينهم، فلكل مشروعيته. في مقولة أخرى، في حديث الشرعية نناقش مفهوم الثابت وفي حديث المشروعية نناقش مفهوم المتغيّر.
في ضوء ذلك، فإن عبد الناصر بنى مشروعيته الأولى بشكل حاسم بسلسلة من السياسات والمواقف المتراكمة من كسر احتكار السلاح والاتجاه شرقاً إلى تأميم القناة، لكنها تكرست عقب الصمود أمام العدوان الثلاثي في 1956. ثم أعقبها بمشروعية أخرى عقب إعلان الوحدة مع سورية. ثم جاءت قرارات يوليو الاشتراكية فكانت منعطفاً آخر نحو مشروعية نوعية مختلفة.
تراكم تلك المشروعيات، هو ما شفع لناصر عقب النكسة التي كانت ضربة قاصمة لا لمشروعياته المتعددة، بل لمنبعها ممثلاً في شرعية ثورة يوليو، وهو ما عمل على ترميمه من بيان 21 مارس وما أعقبه من حرب الاستنزاف (التي استشهد فيها ضمن الفترة القياسية لإعادة بناء الجيش المصري على يديه مع الفريق محمد فوزي تمهيداً للعبور، فخر العسكرية المصرية الفريق عبد المنعم رياض، رئيس هيئة الأركان المصري في 1968، وهو يتفقد الجنود على خط النار).
برحيل عبد الناصر، ورث الرئيس السادات شرعية يوليو، حتى واتته فرصة بناء مشروعيته الأولى عقب أحداث 15 مايو 1971 ، التي بدورها تتباين فيها الآراء، أهي حركة تصحيحية لمسار الثورة أم مجرد انقلاب من القصرCoup du Palais. لكن تلك الأحداث وضعت الرئيس السادات في مضيق سياسي ما بين محاولة الانعتاق من ظل ناصر، ومصاعب المغامرة بفقدان شرعية يوليو، حتى حدث الانفراج الكبير في العبور عبر حرب أكتوبر، التي مثلت المشروعية الثانية والحاسمة لحكم الرئيس السادات. عقبها ارتاح السادات من عقابيل قطع الصلة بناصر. ثم عزز مشروعيته بطرح الديمقراطية على يديه في موازاة طرح ناصر للاشتراكية، فكانت تجربة المنابر التي تحولت إلى أحزاب. عزز السادات تجربته السياسية بقلب صلب اقتصادي Hard Core موازٍ هو الانفتاح الاقتصادي، خالقاً بذلك القاعدة الاجتماعية الصلبة، كي يكون مشروعه السياسي مسنوداً بطبقة قويّة، لكنها راحت تنحرف به من الإنتاج إلى الاستهلاك الترفي المشوه، فأسفرت عن وجهها الرأسمالي الطفيلي.
لكن بعد عامين تقريباً من تجربة إطلاق الأحزاب، أتت الرياح بما لا يشتهيه السادات، عقب عودة حزب الوفد الجديد بحكم قضائي إلى الحياة في 78 ــــــ 1979، فاضطر الرئيس السادات إلى تعزيز مشروعيته بمعاودة الرهان على شرعية ثورة يوليو المتنافية تماماً مع الوفد وقال قولته الشهيرة: ثورة يوليو بمنزلة الثورة الفرنسية، وأنه لا يسمح بالطعن أو التشكيك فيها أو المساس بها، واضعاً حزب الوفد الجديد أمام خيار هوبسون: الانتحار أو الموت، فاختار الأخير الانتحار. السادات عقبها عاد إلى دور اللاعب بدلاً من الحكم، فأسس الحزب الوطني الديمقراطي إلى جانب الأحزاب الثلاثة الأولى: مصر العربي الاشتراكي "الوسط"، الأحرار الاشتراكيين "يمين" والتجمع الوطني التقدمي الوحدوي "توتو، أو اليسار".
لكن تزامن نزول الرئيس السادات إلى ساحة مباشرة اللعبة السياسية الحزبية، مع اتفاقات كامب ديفيد ومعاهدة السلام، ومن قبلها انتفاضة الخبز التي نعتها الرئيس السادات بـ"انتفاضة الحراميّة" الشهيرة في 1977، وحالة الاستقطاب الحادة في السياسة المصرية بين رافض للاتفاقات والتطبيع وبين مؤيد، أفضت إلى أخطر قرارات السادات بانقلابه على مشروعه الديمقراطي، فزج بكل القيادات المعارضة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في السجن، وكان من بينهما خريجان للتو حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح، اللذان كانا بطلي مناقشة شهيرة جرت معه، غداة انتفاضة الخبز. وقد كانا من أبطال ميدان التحرير، وسنرى أي مستقبل سياسي ينتظرهما، علماً بأنهما على طرفي المعادلة السياسية. بذلك القرار في الخامس من سبتمبر 1981، طوى الرئيس السادات مشروعيته السياسية التالية لمشروعيته الكبرى أي حرب أكتوبر، ولم يمض شهر على ذلك، إلا وكان قد فارق الحياة كلها.
ثم جاء الرئيس مبارك، عقب "فرعونين" فطرح في البداية مشروعيته على أساس أنه "رئيس" وليس "زعيما"، باعتبار أن الوطن قد عاني ما عاناه من الزعامتين السابقتين بما لهما وما عليهما، وقد آن أوان اقتصار الحكم على دورتين فحسب. كان ذلك عقب تسلمه الحكم في نهايات 1981 وبدايات 1982.
سياسيا تبدّلت رؤى الرئيس مبارك، فبعد أن اكتفى بالحفاظ على ما تركه الرئيس السادات، مع فارق الإفراج عن المعتقلين بالجملة. عاد بعد أن سمح بتمرير حكم قضائي أعاد حزب الوفد إلى الحياة السياسية، ليحكم مشروعيته بتعزيز مفهوم الحزب القابض الذي يهيمن على الحياة السياسية، فيما ترك بقية الأحزاب لتدور مثل الدراويش في حلقة الذكر من حوله، بلا هدف. على الصعيد الاقتصادي، حاول مبارك ترشيد الانفتاح بإعادته إلى مساره الإنتاجي، فشن حملة عارمة ضد الفساد (رشاد عثمان وعصمت السادات وغيرهما)، فاكتسب النظام مسحة من الطهارة تعزز المشروعية.
لكن مشروعية مبارك وجدت صعوبة في النهوض على قدميها، في ظل ثقل ظل ناصر والسادات، فجاءت تخريجة "الضربة الجويّة" لتكون تفريعة لمشروعية تخص الرئيس مبارك وحده، وليس حرب العبور باعتبار أنها تخص الرئيس السادات وقادة عظام آخرين مثل الفريق سعد الدين الشاذلي، الذي حاربه مبارك مع آخرين. ثم راح مبارك يراهن على عدم تعيين نائب له حتى اللحظة الأخيرة من الحكم، فاتحاً مجال التكهن والاتهام بالتمهيد للتوريث، دون أن ينبس ببنت شفة. وباتت السياسة في مصر نهباً للشائعات والأقاويل، ثم جاءت فترة دخول ابنه جمال إلى سوق السياسة من باب الاقتصاد، وتسليم الحكم إلى وزراء "البزنس" ليبدأ عهد تحالف استبداد السلطة وفساد المال، وتوالت قضايا تهديد الوحدة الوطنية بعدم إفساح المجال أمام الحريات، والدخول في مقايضات نأت بالأقباط عن السياسة، فاكتفى مبارك بمنح دور سياسي للكنيسة، ما زاد من أزمة الرهان على تسييس الدين وتديين السياسة، فخلت الساحة من منافس قوي له إلا الإخوان.
وبسجن زعيم حزب الغد أيمن نور، تمهيداً للتخلص من أي معارضة في البرلمان الأخير في عهد مبارك، اتضح أن المشروعية قد بلغت نهايتها ولكنها نهاية إلى لا شيء، فكان في الانتظار الحدث والحديث، في ثورة لم تسدل الستار على مشروعية مبارك، بل وتنافس شرعية يوليو نفسها، لا لشيء، سوى لأن الجيش سند شرعية يوليو هو نفسه ضامن مشروعية الحياة الدستورية الانتقالية في مصر، على خلفية شرعية مستجدة مختلفة استنتها ثورة الشعب. الوفاء لدماء الشهداء وللوطن والقسم، يفرض على الجيش الاستهداء بالتجربة في تركيا على الأقل، حيث بتسليم السلطة لممثلي الشعب، مكتفيا بلعب دور الحكم من بعيد. مصر في مخاض التحول من شرعية الطليعة والنخبة بالوكالة، إلى شرعية الشعب بالأصالة لأول مرة، منذ فجر التاريخ. حقيقة، الشعب بتضحياته في الثورة، وضع مصر على مدار الشعوب صانعة التاريخ، وليس على الجيش إلا مباركة ذلك بتأمين بلوغها مسار الشمس.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي