روّاد الفضاء يسترجعون ذكرياتهم خارج كوكب الأرض

روّاد الفضاء يسترجعون ذكرياتهم خارج كوكب الأرض

بدأ التاريخ البشري للفضاء في صباح يوم 12 نيسان (أبريل) 1961. فبعد أن تناول الملازم في سلاح الجو السوفياتي، يوري اليكيسيفيتش جاجارين، البالغ من العمر 27 عاما، إفطارا مكونا من اللحم والمربى (أُخرِج بالضغط من أنبوب كالمعجون) تم مساعدته على ارتداء حلة برتقالية ضخمة. واقتيد مع بديله الاحتياطي، جيرمان تيتوف، في الحافلة إلى منصة إطلاق في موقع منعزل لاختبار الصواريخ في سهوب كازاخستان. ووفقا للحكايات السوفياتية التي تم تناقلها، ألقى جاجارين كلمة قصيرة أمام مجموعة المهندسين والعلماء والميكانيكيين المتجمعين في ساعات الصباح المبكرة. وقال: ''أصدقائي الأعزاء، ماذا يمكنني أن أقول لكم في هذه اللحظات الأخيرة قبل الإطلاق؟ تبدو لي حياتي بأكملها كأنها لحظة جميلة. فكل ما مررت به وفعلته في حياتي كان لأجل هذه اللحظة''.
والواقع أنه كان قد تم تسجيل هذه الكلمات، التي تم كتابتها لجاجارين، في موسكو. وفي صباح الرحلة، ودّع الجميع، وضرب خوذته بطريقة غريبة مع خوذة تيتوف، ثم تم الصعود به وربطه في حجيرة كروية مربوطة بصاروخ يزن 300 طن تم تصميمه لحمل أسلحة نووية. وعلى مدى الساعتين التاليتين، حين كان العلماء في حالة من التوتر ويأخذون حبوبا مهدئة، شعر جاجارين بالملل وطلب الاستماع إلى بعض الموسيقى. وقال أول كلمات حقيقية لرائد فضاء مع بدء ''سفينته الفضائية'' فوستوك في الارتفاع عن سطح الأرض الساعة 9.06.59 صباحا، ونبضات قلبه تتسارع إلى ثلاث ضربات في الثانية، حيث قال: ''هيا لنذهب!''.
وكانت الكلاب والفئران والآلات والجرذان والزواحف وعيّنات الدم وتمثال عرض يسمى إيفان إيفانوفيتش قد ذهبوا إلى الفضاء قبل جاجارين، لكنه كان أول من أضفى عليه تنوعا من خلال المزيج البشري الخاص الذي يجمع بين الخيال والضعف. فبعد مائة ثانية من رحلته، ألقى أول نكتة فضائية. فقد سأله سيرجي كوروليف، المصمم الرئيس لبرنامج الفضاء السوفياتي، الذي كان يخشى أن يتعطل الصاروخ: ''كيف تشعر؟'' ورد جاجارين: ''أشعر بأني بخير. ماذا عنك؟'' وبعد بضع دقائق، وفي مكان ما في المدار، فقد جاجارين قلمه الرصاص.
وبعد ذلك، حين فشلت سفينته الفضائية في الانفصال بشكل صحيح عند الدخول ثانية في الغلاف الجوي للأرض وبدأت بالدوران بعنف، قرر، مثل الأشخاص الذين يحاولون التصرف بأفضل وجه في الأوقات الصعبة، عدم إخبار أي شخص عن ذلك. وقال لهم بالراديو: ''كل شيء يسير على ما يرام''.
وكان جاجارين، الأشقر من الطبقة العاملة والذي تم اختياره، كما يقولون، بسبب ابتسامته، مثالا ''للرجل السوفياتي الجديد''. فبعد يومين من هبوطه، كان محور اهتمام الموكب العسكري الضخم في موسكو. وتم إبقاء التفاصيل الدقيقة لرحلته سرية حتى عام 1991. ولكن كان هناك شيء ما بشأن رجل الفضاء الصغير – كان طول جاجارين في حدود 158 سنتمترا – يتجاوز مجرد الدعاية.
وفي زيارة لبريطانيا في تموز (يوليو) 1961، جاء آلاف الأشخاص، على الرغم من هطول الأمطار، لرؤية الاستقبال الذي أعده اتحاد عمال المسابك في مانشستر، والذي جعل جاجارين، وهو عامل المسابك السابق، عضو الشرف رقم واحد، وأعلن أنه ''واحد منا''. وأسهمت إنسانيته أيضا في موته. فقد تم منعه من القيام بالمزيد من الرحلات الفضائية بسبب المخاطر، وحاول مرافقوه الذين يعتنون به منع جاجارين، الطيار الشاب، من الطيران كلما كان ذلك ممكنا. ولكن في 27 آذار (مارس) 1968، بعد ثلاثة أشهر على الأرض، انطلق جاجارين في طائرة ميج - 15 في أحوال جوية سيئة. وتم اكتشاف حطام طائرته في غابة شمال شرق موسكو بعد ساعات عدة. وتم التعرف على بقايا جاجارين بسبب الشامة على عنقه.
وبمناسبة مرور 50 عاما على ذلك الصباح المشرق في كازاخستان - وللاحتفال بالفصل المحموم من الإنسانية خارج حدود الأرض التي بدأت مع جاجارين - قررت فاينانشال تايمز إجراء مقابلة مع رائد فضاء من كل دولة أرسلت أحد مواطنيها إلى الفضاء. وحتى هذا العقد، لم يتمكن سوى الاتحاد السوفياتي (الذي أصبح روسيا لاحقا) والولايات المتحدة من إرسال البشر إلى المدار، وقاما بينهما بإرسال أشخاص من 37 دولة مختلفة إلى الفضاء. وفي عام 2003، انضمت إليهما الصين مع أول رائد فضاء لها، يانج ليوي.
وابتداء من أواخر شهر كانون الثاني (يناير)، بدأ فريق مكون من 17 كاتبا من ''فاينانشال تايمز'' بتتبع ومقابلة ما مجموعه 35 رجل وامرأة فضاء من جميع أنحاء العالم، من البرازيل إلى كوريا الجنوبية، ومن كندا إلى إيران، ومن ستار سيتي إلى سوربيتون، وهي إحدى ضواحي مدينة لندن. ولم نتمكن من التحدث إلى ثلاثة منهم: رفض برنامج الفضاء الصيني المشاركة في المشروع؛ كما أن رائد الفضاء الإسرائيلي الوحيد إيلان رامون توفي عام 2003؛ وفشلت محاولاتنا للاتصال بالجنرال أرنالدو تامايو مينديز، من كوبا.
إلا أن البقية منحونا وقتهم. وسألناهم كيف وصلوا إلى الفضاء، وماذا فعلوا هناك، وكيف تغيرت حياتهم على الأرض بعد ذلك. ولم يكن لدينا أجندة أخرى سوى معرفة معلومات عن رحلاتهم وتجاربهم، والأشياء التي رأوها وشعروا بها وفعلوها. ونأمل أن تشكل تجاربهم معا وصفا جماعيا للقاء البشرية مع الفراغ الذي يحيط بنا. وهذه هي النتيجة.
عندما جمعنا المقابلات التي أجريناها، كان من الواضح أنه يمكن استنتاج بعض الملاحظات العامة، حتى بعد أن أخذنا في الاعتبار الاختلافات الواضحة بينهم - في العمر والجنس والعقيدة والخلفية. الملاحظة الأولى هي أنهم أشخاص متميزون. فقد تم اختيار كل الرجال والنساء من بين مئات، إن لم يكن آلاف، المرشحين. وتم اختيار الشيخ مظفر شكور، الذي أصبح أول ماليزي في الفضاء عام 2007 من بين 11,425 شخصا تقدموا بطلبات. وكلود نيكولييه، رائد الفضاء السويسري الذي ذهب إلى الفضاء أربع مرات، منهما مرتان لإصلاح تلسكوب هابل للفضاء، هو طيار تجاري مؤهل وطيار تجريبي وطيار مقاتل، يحمل درجة الماجستير في الفيزياء الفلكية.
وهم عينات رائعة - يتمتعون بلياقة بدنية واستقرار عقلي وتنقلوا بين الجامعات في بعض الحالات - ومع ذلك فإن الكثير مما يفعلونه منظم بشكل صارم. فقد كانت رحلة جاجارين عام 1961 تحت التحكم التام من الأرض. وكان رواد الفضاء الأوائل في ناسا يعرفون بأنهم ''لحم معلب في علبة''. ويقول راكيش شارما، الطيار التجريبي الذي ذهب إلى الفضاء عن الهند عام 1984، إنه كان ''صابورة كابح''، في حين يقول راينولد إيفالد، من ألمانيا: إن أصعب شيء بشأن الطيران إلى محطة مير الفضائية هو مراقبة الساعة تدق لمدة يومين وهو يشعر أنه ''طوبة في الحائط''. وحتى الآن، فإن الحياة على المحطة الفضائية الدولية محكومة بصورة دائمة بالجداول الزمنية وقوائم المهام. وقال جميع رواد الفضاء تقريبا الذين تحدثنا إليهم إنهم يودون العودة إلى الفضاء مع وجود مهام أقل للقيام بها.
وبالنسبة للكثير منهم، ظلت حياتهم متأثرة جدا برحلاتهم الفضائية بعد وقت طويل من عودتهم إلى الأرض. وتتفاخر ثلاث وعشرون دولة برائد فضاء واحد، طار إلى الفضاء نيابة عن الشعب. وذهب معظمهم في الثمانينيات والتسعينيات، إما في إطار برنامج انتركوزموس السوفياتي، الذي يهدف لنشر النوايا الحسنة والتعاون العلمي بين الحلفاء الشيوعيين، أو على متن مكوك فضائي أمريكي، لأسباب أخرى، وإن كانت معاكسة. وفي المجموع، طار 23 من رواد الفضاء الذين قابلناهم مع الروس، وتم تدريب 14 منهم وإرسالهم إلى الفضاء من قبل وكالة ناسا.
منهم من طار لأسباب تتعلق بالدبلوماسية، أو لرفع معنويات دولة ما في حالة حرب (أفغانستان) ولتسديد دين (سلوفاكيا). وفي كل حالة تقريبا، كان لدى هؤلاء الرجال والنساء التزام حقيقي أو متصور بأن يكونوا رموزا لبلدانهم، وتبادل تجاربهم على أوسع نطاق ممكن، وبألا يخذلوا أحدا.
وهذا الأمر يشكل ضغوطا. فلا يزال يتم إيقاف ديرك فريموت، من بلجيكا، في الشارع، بعد 19 عاما من رحلته. ويقول توكتار اوباكيروف من كازاخستان: ''لا تعود تنتمي لنفسك فقط. الأمر شبيه بملكة إنجلترا''، وبعد تسع سنوات من ظهورها العلني بعد رحلتها عام 1991، رفضت أول رائدة فضاء بريطانية، هيلين شارمان، أن تقول كيف أمضت حياتها في العقد الماضي.
ولكن على الرغم من كل القوى التي تقيدهم، فإن ما يتكشف في كلمات وصور رواد الفضاء هؤلاء هي الأفكار والمشاعر والذكريات التي يمكن للبشر فقط صنعها. وكان أحد الأسباب للسيطرة على رحلة جاجارين من بُعد هو أن علماء النفس السوفييت اعتقدوا أنه قد يجن لدى رؤية الأرض. وفي الواقع، تبين أننا نكون على سجيتنا في الفضاء. فما قاله جاجارين وهو يرتفع عن سطح الأرض: ''أرى الغيوم. موقع الهبوط... هذا جميل، يا له من مشهد جميل!''.
وصادفنا بعض الكوميديا في مقابلاتنا (في رائد الفضاء البولندي، الذي يحاول الاسترشاد بأضواء وسط المدينة في طوكيو)، والتواضع (في بطولة جيم لوفيل، قائد أبولو 13)، والسمو (في وصف رائدة الفضاء الفرنسية، كلودي هاينر، لغروب الشمس وشروق الشمس، على أنغام الموسيقى).
ولكن إذا كانت هناك ملاحظة ثابتة من هذه المجموعة، فهي عدم اليقين. ليس بسبب ما قاله أو فعله رواد الفضاء هؤلاء، ولكن بسبب حالة المشروع البشري في الفضاء في حالته الراهنة. فأحلام الاستعمار البشري للقمر - تحدثت ''فاينانشال تايمز'' عن سلع يتم ''صنعها في الفضاء'' حتى فترة متأخرة هي التسعينيات - لم تتحقق. ومن بين الثلاث والعشرين دولة التي لديها رائد فضاء واحد، تخطط القليل منها فقط لإرسال المزيد. والعديد من الرجال والنساء الذين ذهبوا إلى الفضاء أصبحوا الآن في الستينات والسبعينات من العمر، ويكتفون بسرد قصصهم، لكنهم يريدون أن يحل آخرون محلهم. وفي الولايات المتحدة، فإن إحالة مكوك الفضاء إلى التقاعد في وقت لاحق من هذا العام يعني أن وكالة ناسا لم تعد لديها وسائل خاصة بها لإرسال البشر إلى المدار للمرة الأولى منذ نهاية برنامج أبولو.
إن الذكرى الخمسين لرحلة جاجارين هي لحظة احتفالية، لكن مدة 50 سنة هي كذلك مدة كافية لاستنزاف الفضاء من أحلامه المثالية. يقول ووبو أوكِلز، من هولندا: ''بإمكانك القول إننا لم نعثر على الذهب في الفضاء''. ومن الأسئلة التي طُرِحت في هذه المجموعة هي ما إذا كان أكثر الأشخاص جرأة وتنوعا في مجتمعنا هم الآن في سبيلهم إلى أن يصبحوا من الماضي؟
أخيرا، هناك ملاحظة حول اختياراتنا: التعريف المقبول بصورة عامة لرجل الفضاء هو ما يقوله الاتحاد الدولي الفضائي، الذي يرى أنه ينطبق على من سافر مسافة تزيد على 100 كيلومتر عن سطح الأرض. لكننا قمنا بتخفيف بعض المقاييس إلى حد ما. ذلك أن الاتحاد الدولي يعتبر الرحلة ''غير مكتملة'' إذا غادر رجل الفضاء سفينته (كما فعل جاجارين في عام 1961) أو إذا توفي أثناء المهمة (كما حصل مع إيلان رامون في عام 2003). ومن حيث البلدان التي تم تمثيلها فإننا لم نُدرِج البلدان التي طار مواطنوها فقط حين كانت بلدانهم جزءا من الاتحاد السوفياتي، أو رجال فضاء ناسا الذين كانوا فقط مؤهلين للطيران لأن لديهم جنسية أمريكية مزدوجة. لكن حتى بالنسبة لهذا البند، فقد أدرجنا كازاخستان؛ لأنها البلد الذي بدأت منه كل هذه الأمور. والآن، سنشغل السفينة. ''هيا لنذهب''.

الأكثر قراءة