معضلة «الثقافة النفطية» «ثقافية»!
يبدو أن توهم انخفاض سقف الحريات لا يقتصر على بعض وسائل الإعلام، إنما يمتد أيضا إلى شركات القطاع الخاص والعام أيضا، لدرجة أن هناك نوعا من الهوس في السيطرة على المعلومات والأفكار. هذا الهوس لا يعود إلى تعليمات حكومية، إنما هو جزء من ثقافة متجذرة في هذه الشركات. هذا الهوس في السيطرة على المعلومة يفسر عدم وجود صحافة راقية متخصصة على مستوى الخليج، ويفسر فشل انتشار الثقافة النفطية في المجتمعات الخليجية التي تأكل وتشرب وتلبس من النفط. فهؤلاء يرون أن أي نشرة أو مجلة أو معلومة تتعلق بالموضوع يجب أن تصدر من عندهم وتحت إشرافهم، ويرون أن صدورها بشكل مستقل يهددهم، رغم عدم وجود أي دليل على ذلك. لهذا، فإن معضلة الثقافة النفطية ''ثقافية'' بالدرجة الأولى.
يدرك الجميع، الحكومة، وشركات النفط الوطنية، والمثقفون، والصحافيون، والكتاب، أهمية الثقافة النفطية في مجتمع يعتمد على النفط ليعيش. لكن نشر الثقافة النفطية لتحقيق الأهداف المنشودة منها يتطلب شروطا لم تتوافر في الجهود السابقة، ولا تتوافر في الجهود الحالية (ولن أتطرق هنا لأهمية الثقافة النفطية لكافة الفئات، ولا إلى أهدافها). والخوف الآن أن يتم إنفاق الملايين على برامج بحثية وتعليمية عديمة الفائدة، أو ذات عائد استثماري سالب، أو برامج تكرر ما يقوم به الآخرون في مراكز وهيئات أخرى. إن من شروط تحقيق برامج الثقافة النفطية لأهدافها أن تقوم بها هيئات مستقلة عن الحكومة وشركاتها النفطية، وأن تكون مبنية على فكر عربي نفطي أصيل. كلا الشرطين لا يوجدان في البرامج الحالية أو البرامج التي خلت. لماذا الإصرار على أن تكون برامج الثقافة النفطية أو مجلات أو نشرات الطاقة أو غيرها تحت إشراف هذه الهيئات أو الشركات؟ ولماذا الإصرار على أن تكون مراكز البحوث تحت سيطرة هذه الشركات بطريقة أو بأخرى؟ إن هذا الإصرار هو الذي جعل الصحافيين يفقدون الثقة بالمعلومات المقدمة لهم، وجعلهم يصابون باليأس من التعامل مع هذه الهيئات والشركات، وجعل المستثمرين يبتعدون عن الاستثمار في مجال المعلومات. إن كل ما تستطيع تقديمه الجهات الرسمية هو معلومات بسيطة عن النفط مثل طرق استخراجه ولونه ورائحته، لكنها لا تستطيع، بحكم عملها، أن تتعرض لمواضيع استراتيجية في عمق الثقافة النفطية تتعلق بالأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمسؤول في شركة نفط وطنية لا يستطيع الحديث عن سياسات الدول المصدرة للنفط والتكاليف الحقيقة لإنتاج للنفط واستغلال شركات النفط العالمية الفظيع للدول المنتجة منذ اكتشاف النفط في المنطقة حتى بداية السبعينيات، ولا يستطيع الحديث في نظم إعانات البنزين والديزل والغاز، ولا يستطيع الحديث عن مستقبل الصين، أو النفط الإسرائيلي، أو سياسات الاستقلال عن النفط التي تتبناها حاليا الدول المستهلكة. الهيئات المستقلة وحدها تستطيع ذلك. لهذا فإن ما قدم ويقدم الآن يعد ناقصا بكل المقاييس.
أما الشرط الثاني، فإنه يعني أنه لا ثقافة دون فكر. نريد فكرا، كي ننشر ثقافته. لقد تم بناء ثقافة نفطية أو ''طاقية'' (نسبة إلى كلمة طاقة) في الدول الغربية بناءً على فكر معين محوره العداء للنفط وأهل النفط، فما الفكر الذي يدعم مراكز البحوث وبرامج الثقافة النفطية الحالية في الدول المنتجة للنفط؟ إن عدم وجود فكر عربي نفطي هو الذي جعل بعض المراكز توقع عقودا لإجراء دراسات عن أسواق النفط مع خبراء أجانب أمضوا حياتهم المهنية وهم يعادون الدول النفطية. وهو الذي جعل هذه المراكز تتجاهل بحوثا ورسائل دكتوراه أبناء البلد وتوظف الخبراء الأمريكيين والأوروبيين للقيام بالبحوث نفسها. إنه لمن المخجل أن يقوم أحد المراكز بتمويل بحث في جامعة أمريكية مشهورة هدفه مراجعة النماذج الرياضية التي تركز على أسواق النفط خلال الأربعين سنة الماضية، في الوقت الذي قام فيه سبعة باحثين على الأقل من البلد نفسه بجعل تلك المراجعة مقدمة لبحوثهم. إنه لمن المحزن أن يكتشف الخبراء الأجانب أن كل ما عليهم لإنهاء الوظيفة الموكلة لهم هي قراءة ما كتبه أبناء البلد، ثم إعادة كتابته مرة أخرى. بعبارة أخرى، هناك بحوث قام بها أبناء البلد ''مجانا'' ونشرت في مجلات عالمية علمية محكّمة تحتوي على المراجعة نفسها التي قام المركز بتمويل جامعة أمريكية من أجلها. لو كان هناك فكر عربي نفطي لما تم هدر الأموال بهذا الشكل.
ولا يمكن أن يكون هناك فكر عربي نفطي يساند الثقافة النفطية إلا إذا كانت اللغة العربية لغته الرسمية، ولغة التخاطب بين الخبراء والجماهير التي تتلقى الثقافة النفطية. إنه من المؤسف أن تكون المعضلة الكبيرة في أحد برامج الثقافة النفطية ندرة القادرين من أهل البلد على إعطاء محاضرات عن النفط والطاقة باللغة العربية، في الوقت الذي عبر فيه الكثيرون عن رغبتهم في المشاركة إذا كانت المحاضرات باللغة الإنجليزية. ومن المؤسف أن يتم تحويل أسماء مراكز الطاقة وهيئات الطاقة الأخرى من أسماء عربية إلى مصطلحات إنجليزية، مع أن أسماء هذه المراكز والهيئات تحتوي على أجمل الأسماء، سواء نظرنا إليها من الناحية الشرعية أو القومية. إنه من المحزن أن يتم اختصار أحب الأسماء إلى الله بحرفين إنجليزيين.
وكما ورد في مقال سابق، فإن ''الثقافة النفطية'' ليست مجرد عرض معلومات، أو مشاهدة فيلم، أو عرض معلومات عن أنواع النفط وألوانه وطرق بيعه، وليست مجرد معارض تحكي تاريخ النفط وطرق استخراجه والتقنيات المستخدمة في صناعة النفط، ولا يقصد بها أن يقرأ كاتب ما مقالا في صحيفة أجنبية، بل يقصد بها تكوين مهارات وقدرات بشرية قادرة على خدمة المصالح الوطنية والرد على ادعاءات الأعداء بطرق ذكية ومقنعة. ليس المهم إقناع الأعداء، وإن كان ذلك نجاحا كبيرا، لكن المهم هو إقناع الجمهور الذي يشاهد الحوارات ويقرأ المقالات المختلفة، وإن كان تحييد الأعداء يعد نجاحا في حد ذاته. إن طريقة الاستفادة من المعلومة وتجييرها لمصلحة الوطن هو ما نصبو إليه من نشر الثقافة النفطية.
خلاصة الأمر، أن الهوس بالسيطرة على المعلومة أو طريقة الحصول عليها أو تقديمها حدّ من انتشار الثقافة النفطية. هذا الحد، في رأيي، لا يعود إلى سياسة حكومية، إنما إلى سياسات فردية، وهذه السياسات الفردية تعود إلى عدم وجود فكر، ومن مظاهر عدم وجوده تفضيل العرب استخدام اللغة الإنجليزية في بلاد العرب! لقد كانت اللغة الإنجليزية لغة المستعمر، لهذا فإن مفهوم ''السيطرة'' على المعلومة ليس غريبا في هذا السياق.