قيادة المرأة للسيارة .. أولوية أم ترف؟ .. قراءة اقتصادية

لم أتردد يوما ما في قراءة حال أسواق المال أو دراسة متغيرات اقتصادية للعديد من الدول الصناعية والناشئة فهي ضمن نطاق مهامي اليومية إن لم تكن شغفا بمعرفة مستجدات كل ما يمس التنمية المستدامة بأبعادها الثلاث: الاقتصادية، البيئية، والاجتماعية.
لم أتردد يوما ولن أتردد الآن في مناقشة قضية قد تعد هامشية لدى الكثير ممن لم يسعفهم الوقت للحصول على تصور كاف لمدى الشح في ثقافة الأولويات لدى مجتمع لعبت متغيرات متسارعة دورا في تراكم قضايا تنتظر حلولا جذرية. قضايا ذات أولوية تم تسويف متابعتها نتيجة التباين في ثقافة التنمية المستدامة.
قيادة السيارة سلعة لم تستطع المرأة المترفة الحصول عليها بعد أن استحوذت على كل جديد من بضائع هذا الكوكب حتى أنني بدأت أربط ربحية الشركات بما تقوم به المرأة! (سأتطرق لهذا بعد قليل) ولم يتبق لدى المرأة المترفة سوى نشوة تجربة القيادة، والذي يشير إلى الضرب بالأولويات عرض الحائط مقابل تحقيق نزوة ستنطفئ نار شموعها خلال فترة قصيرة! وقد يتساءل البعض لم لا نرمي بسلعة قيادة السيارة في سلة تسوق المرأة لنتجاوز مرحلة التشتت في تحديد أولويات المجتمع؟ ويجيب آخر ما هو العبء الاقتصادي الناجم عن هذه الخطوة؟
قبل الإجابة لابد من الإشارة إلى مدرستين تتنافسان على تطور المنهج الاقتصادي. المدرسة الأولى ترى أنه لا بد من التركيز على تطوير النظريات الاقتصادية لاستخدامها في تطبيقات أخرى في التنمية المستدامة. وما زال رواد تلك المدرسة منهمكين في تطوير تطبيقات النظريات الاقتصادية. أما المدرسة الأخرى والتي أميل إليها، تعتقد أن هنالك كما وافيا من النظريات الاقتصادية تسمح بتحقيق أبعاد التنمية المستدامة ولذلك لا بد من العمل على تطوير وسائل التواصل عبر تبسيط تلك النظريات حتى يتسنى للقارئ ذي الإدراك المتواضع الاستفادة عمليا من تلك النظريات في حياته اليومية.
ولك أن تتخيل تناغم الغالبية إن لم يكن الكل عند الاستماع إلى أبيات شعرية لقصيدة ما أو الاستمتاع بقراءة أبراج الحظ الواهمة في صحيفة يومية لتصيد بريق أمل للعديد من تعساء الحظ هذه الأيام. لك أن تقارن بين ما سبق وبين قراءة كتاب يعج بأرقام ومعادلات يشكل حصنا منيعا لدى وعي العامة.
ولهذا سأحاول هنا تطبيق رؤية مدرسة تطوير الوسائل لتيسير إدراك النظريات الاقتصادية والتي تتضمن تحديد الأولويات والتي أميل إليها عبر مثالين اثنين:

المثال الأول:
في صباح باكر تستيقظ "الآنسة نانسي" فتبدأ يومها بقراءة برج العذراء لتندب حظها العاثر فهي ما زالت في انتظار فارس يمتطي حصانها الأبيض. وفجأة ترمق عنوانا في الصفحة الأولى بتخصيص 14 مليار ريال ضمن الميزانية الجديدة لتوسعة الطرق، وتطوير البنية التحتية لقطاع خدمات الطرق، وإنشاء إدارات نسائية للمرور تزامنا مع السماح للمرأة بقيادة السيارة.
بعد ثلاثة أشهر يتم إنجاز البنية التحتية المطلوبة وهذا إنجاز غير مسبوق في تاريخ أداء الأجهزة الحكومية، تقرر الآنسة نانسي الذهاب إلى استشاري طب العيون الدكتور شايف بصراوي في مستشفى فندقي تابع للقطاع الخاص للحصول على فحص النظر لعيونها الناعسة، وشراء آخر ما قدمته الموضة من نظارات لدى محال جلاس ستايل. طبعا ما زالت الآنسة نانسي تحتاج إلى السائق "راجو ماسيندار" لإيصالها إلى مركز إدارة المرور للحصول على رخصة القيادة بعد أن فشلت في إقناع والدها بأن حصولها على رخصة القيادة يعد أولوية تسبق اجتماعه لعقد صفقة شراء 14 طن "ماكياج" لارتفاع الطلب على التبرج تزامنا مع أفراح الزواج في الصيف. وبعد فشلها في اختبار أبجديات القيادة حتى بعد عدة أيام متواصلة من التدريب وتشوه جوانب السيارة ودفع أجور الصيانة والسمكرة، استطاعت أخيرا أن تمضي أول يوم في حياتها خلف مقود السيارة لتعيش تجربة جديدة تروي عطش الاستحواذ على كل ما هو جديد ففطرة الإنسان أنه لا يشبع. وفي اليوم التالي انطلقت بسيارتها متوجهة إلى أكبر مركز تجاري للتسوق واستغرقت بملل في إيقاف السيارة قبل أن تدخل المركز التجاري بامتعاض تغمره سعادة تجربة السلعة الجديدة (قيادة السيارة).
وبعد عدة أسابيع أصبحت قيادة السيارة لدى الآنسة نانسي مملة وطوابير انتظار إعلان الإشارة الخضراء دفع بمعدلات ضغط الدم إلى الارتفاع فقررت الركوب في الخلف بعد أن قالت "أف شو هالزحمة والحر يا "راجو" تعال بس سوق عني بلييز خليني أقرا مجلة .. طبعا هذا بعد أن لم يتبق أحد في مرسال البلاك بيري إلا وأشبعته حديثا! وطبعا لاحظ أن الأخ الوافد "راجو ماسيندار" كان طوال الوقت في المقعد الخلفي للتدخل في وقت الأزمات!

المثال الثاني:
في صباح باكر تستيقظ "أم عبد الله" لإعداد وجبة الإفطار لولدها عبد الله قبل أن يذهب إلى مقر عمله كمعقب في الدوائر الحكومية لدى شركة والد "الآنسة نانسي" التي تبيع 14 طن "ماكياج". وبعد أن أصبح عبد الله جاهزا للذهاب إلى مقر عمله اتصل به والد "الآنسة نانسي" موبخا إياه لتأخر صدور 14 تأشيرة بائع في محاله التي تنتظر وصول الـ 14 طن "ماكياج". وتردد عبد الله كثيرا في الاعتذار لأمه عن رغبته في تأجيل موعد ذهابها إلى مستشفى العيون لإدراكه أن أقرب موعد لن يكون قبل أسابيع أخرى. أدرك عبد الله أن بر الوالدين أولى في هذا الظرف الصعب وأخبر أمه بالاستعداد للذهاب إلى موعدها الذي تنتظره بفارغ الصبر منذ أسابيع لمعالجة المياه البيضاء في عينها اليمنى.
وعند وصول أم عبد الله مع ابنها لدى عيادة طب العيون استقر بهم الوقت لمدة تجاوزت الساعتين حتى تمكنت من الدخول على استشاري العيون الدكتور شايف بصراوي بعد تأخره قادما من عيادته في المستشفى الفندقي التي كانت مكتظة بصديقات "الآنسة نانسي" للحصول على فحص نظر!
السؤال الذي يتبادر لكل قارئ: إذا تم إدراج خيارات لمن هم على حالة "أم عبد الله" عند وضع بنود جديدة في ميزانية الدولة تصل إلى 14 مليار ريال فهل ستختار:
1) إنفاق 14 مليار ريال لتطوير البنية التحتية للطرق وقطاع خدمات الطرق وإنشاء إدارات للمرور نسائية حتى تتمكن من الحصول على حق قيادة السيارة.
2) إنفاق 14 مليار على تطوير القطاع الصحي عبر إنشاء المزيد من المستشفيات وتقليل فترات الانتظار في العيادات من خلال الاستثمار في كوادر وطنية صحية مؤهلة لخدمة احتياجات المجتمع من ذلك القطاع الذي يمس كل فرد للحصول على حق المرأة من الرعاية الصحية.
ربما سندرك إجابة "أم عبد الله" إذا استوعبنا ثقافة الأولويات.
حسنا، ما هو العبء الاقتصادي على خطوة هامشية كهذه؟
في البداية لابد أن أشير إلى دراسة من قبل مصرف دويتشه الألماني تفيد أن دور المرأة في الاقتصاد ينصب في رفع نسبة الإنفاق الاستهلاكي والذي يعزز بدوره فرص النمو الاقتصادي لقطاع التجزئة كأحد أهم مرفأ لنمو قطاع الخدمات الذي مهد لنمو الاقتصاد العالمي بوتيرة تسابق وتيرة النمو السكاني. المسألة برمتها لا ترتبط بالإيمان بقدرات المرأة الإدارية لكن بقدراتها على إنفاق مدخراتها مقارنة بتحفظ الرجل على معدلات الإنفاق الاستهلاكي. مرحلة الإنفاق الاستهلاكي المعززة للنمو تواجه عقبات منها اقتراض أغلب الرجال في سوق العمل مما يدفعهم لتخصيص جزء كبير من مدخراتهم لسداد ديون سابقة والذي بدوره يكبح قدرة الشركات على إيجاد نمو جذاب لمبيعاتها.
الحل في نظر قطاع الشركات هو استبدال القوى العاملة (الرجال في هذه الحالة) بالنساء العاملات إما عبر الإحلال المباشر (الاستغناء عن الموظفين الرجال) أو توظيف النساء دون الرجال عند أي نمو لسوق العمل بسبب انخفاض نسبة النساء المقترضات. بمعنى آخر استبدال مفهوم دور المرأة التربوي للأجيال القادمة بمفهوم المرأة العاملة من أجل دعم ربحية القطاع الخاص!
يتكرر السؤال: أين العبء الاقتصادي؟
عندما تطرق البعض في أواخر القرن الماضي إلى مسألة المرأة العاملة كان أحد الأسباب التي يرتكز عليها مؤيدو المرأة العاملة هو تحسين معدلات الدخل لدى الأسرة لمواكبة ارتفاع تكلفة المعيشة، وهذا ما حدث فعلا. واعتقد أن بعض الأسر استطاعت تحقيق معدلات دخل مرتفعة ساهمت إيجابيا في تحسن المستوى المعيشي. لكن ما الذي حدث؟
تزامن تشجيع مبدأ المرأة العاملة مع تركيز القطاع الخاص على المرأة العاملة كبديل حيوي لتناقص معدلات الاقتراض من قبل القوى العاملة من الرجال والذي أدى بدوره إلى خفض معدلات البطالة لدى النساء مقابل استمرار ارتفاع معدلات البطالة لدى الشباب من الرجال.
وعند سؤال أي مراقب اقتصادي لظاهرة كهذه على المدى الطويل لن يفاجأ أحد إذا ما وصل الحال إلى أن يستبدل مسمى ربات البيوت إلى أرباب البيوت. لن أستغرب مطلقا تفاقم معدلات البطالة لدى الشباب من الرجال بشكل يدفع معدلات العنوسة إلى الارتفاع نتيجة استهداف القطاع الخاص للمرأة العاملة عبر إحلالها مقابل الشباب عند نمو فرص العمل، وبالتالي سنجد أنفسنا مجبرين على تبني ثقافة آسيوية تجبر النساء على دفع المهور عند الزواج في المستقبل!

السؤال الذي يتبادر إلى ذهني:
أليس سبب عنوسة المرأة هو بطالة الرجل؟ ألا تعكس العنوسة حق الزواج المسلوب منها؟ هل نحصر حقوق المرأة في أن تكون يدا عاملة أو حق لقيادة سيارة ونختطف أنوثتها بمسمى المساواة؟ لماذا نساوم المرأة بين تربية الأجيال وبين لقمة العيش؟
ألم يكن دور المرأة في الأسرة تربويا في المقام الأول؟ ولذلك قال الشاعر حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق
ألا يعني هذا أن التحصيل الأكاديمي للمرأة هو هدف غايته تربية الأجيال وليس كما يلاحظ اليوم من ترك الأطفال مع الخدم لتحقيق وهم الذات.
سيقفز سؤال آخر: ماذا عن الفقراء والأرامل؟ من يعولهم إذا لم ندعم مفهوم المرأة العاملة؟ من هنا نستطيع توظيف ثقافة الأولويات عبر إدراك أولويات حقوق المرأة والتي تعكس مسؤولية مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والدولة في طرح صندوق دعم المرأة لتمكينها من تربية أبنائها. هذا الصندوق سيصب دوره في معالجة تفاقم العنوسة عبر إيجاد فرص العمل للشباب.
سيطرأ تساؤل: أليس هنالك صندوق الموارد البشرية الذي يتبنى إيجاد فرص العمل؟
الجواب: هذا صحيح لكن لا بد من ربط بيانات سوق العمل مع آلية القضاء على العنوسة حتى نستطيع التأكد من حصول المرأة على حق الزواج من شاب قادر على القيام بدور فطرة القوامة. إذا استطاعت المرأة تربية جيل يخدم المجتمع متسلح بالأخلاق والمعرفة سنستطيع تحقيق أحد أبعاد التنمية المستدامة وهو التنمية الاجتماعية والذي سيدفع بتحقيق مفهوم التنمية المستدامة وليس مفهوم رفع معدلات الربحية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي