قوانين أم أنظمة؟!
تجاذب المهتمون في الشأن القانوني والقضائي هذه الأيام النقاش القديم المتجدد دائماً وهو أيها أصح وأكثر دلالة على مجموع ما يصدر من السلطة التشريعية والتنفيذية من قواعد وأنظمة هل هو مصطلح (قانون) أم مصطلح (نظام) ؟ مع إيماني التام أن البحث في هذه المسألة من الترف العلمي والمعرفي ، إذ لا يترتب عليه كبير أثر وفائدة. إلا أن هذا النقاش دفعني لتحرير المصطلحين لغوياً واصطلاحيا ، والعرض التاريخي لكلٍ من المصطلحين للوصول إلى أي المصطلحين أولى بالاستخدام.
فمن الجانب اللغوي ، فإن لفظة قانون أدرجت في كلام العرب إذ لم تكن منها، وهو ما أكده أهل اللغة وأربابها كابن سيده وابن الناظور وغيرهما . وهي – أي لفظة قانون – لا تخرج لغويا عن ثلاث معانٍ متقاربة ، أولاها : مقياس الشيء . ثانيها : أصل الشيء وقاعدته ، وهذا ما حدا بابن جزي الكلبي- وهو من علماء القرن الثامن الهجري) لتأليف كتابه القوانين الفقهية ، فجعل القانون في مقابل الأصل والقاعدة . وكأن المعنى الاصطلاحي اخذ من هذا المعنى فكانت القوانين والأنظمة كالأصول التي يرجع لها الناس عند التنازع. ثالث المعاني : الطريقة المستقيمة . وهذا المعنى – أي الثالث - يتطابق مع معنى النظام في اللغة ، فإن النظام في اللغة يأتي من النظم والترتيب والاستقامة على الشيء.
ومن المعلوم أن الجانب اللغوي ليس هو المعول عليه اصطلاحياُ ، إنما هو معين على فهم المراد ومعرفة منبع الاشتقاق ، وإلا فالمعنى الاصطلاحي هو ما يبنى عليه في موضوعنا. وحال شروعنا في المعنى الاصطلاحي لكل من المعنيين ، نجد أن المصطلح المستخدم عندنا في المملكة العربية السعودية هو لفظة (لنظام) بدلاً من (قانون) ، وذلك لخلفية تاريخية شرعية ، فحين استُجلبت القوانين في الدول العربية من الدول الأوروبية - وكان في طياتها كثير من النصوص المخالفة للشريعة - دفع كثيراً من علماء الشريعة إلى النفور ونبذ هذا المصطلح الذي كان ذا ارتباطٍ قويٍ بالقوانين الوضعية ، واستبدلوها بمصطلح (نظام) ، وهو الأمر الذي جعل المملكة تصطلح في كل قوانينها على مصطلح (الأنظمة) حتى شاع هذا الأمر ، ولم يعد يستخدم مصطلح (القانون) . بينما في كثير من الدول العربية يفرقون بين المصطلحين فيجعلون (القانون) أعلى رتبة من (النظام) فمنهم من يجعل (النظام) قبالة اللائحة ومنهم من يصطلح على كون (النظام) هو ما يصدر من السلطة التنفيذية بينما (القانون) هو ما يصدر من السلطة التشريعية.
وعليه فقد برز واستقر مصطلح (النظام) لدينا أنه ما يصدر من الجهات التنفيذية أو التشريعية وهو بالضرورة لن يخالف الشريعة. وهو ما لاقى ترحيباً – أي مصطلح نظام – من علماء الشريعة. ومع هذا الاستقرار فقد أخذ مصطلح (النظام) معناً جديدا قد لا يحويه مصطلح (القانون) ، فكان مصطلح (النظام) هو ما يصدر من سلطات الدولة وفي ضمنه معناً أو شرطاً بعدم مخالفة الشريعة ، وهو المعنى المفقود في مصطلح القانون.
إلا أنه لا غضاضة – لدى الجميع - من استخدام المصطلحين على وجه التبادل. وهو أمر دارج في الكتب والمحاضرات والمقالات وغيرها، بل وفي تسمية الكليات أو الأقسام في الجامعات. والذي أرجحه أن استخدام كلمة (النظام) أولى وأقرب للمدلول لدينا في المملكة العربية السعودية وذلك لثلاثة أمور :
أولاً: فيه تأسيس لمعنى جديد ، وهو أمر محمود في كثير من العلوم. وعليه ، فإن – مثلاً – خصائص القاعدة النظامية ستختلف عن خصائص القاعدة القانونية ، فإن خصائص القاعدة القانونية هي العموم والتجريد ، وتنظم السلوك الاجتماعي ، والإلزام مع الجزاء ، بينما خصائص القاعدة النظامية ستكون حتما الثلاث السابقة بالإضافة لعدم مخالفة الشريعة الإسلامية.
ثانياً : أصل الكلمة واشتقاقها منحوت من اللغة العربية بعكس لفظة (القانون) المعربة.
ثالثاً : استقرار المصطلح لدينا، فإن لفظة (نظام) هي المستخدمة في جميع السلطات في المملكة العربية السعودية ، وهي ما تعنون به القوانين والأنظمة. وإن توحيد المصطلح يسهل على غير المختص فهم المراد وعدم التشتت بين المصطلحين.
وعوداً على بدئ ، فإن للقانون معنىً قديم ألا وهو الإشارة للقانونين الوضعية المخالفة للشرع ، إلا أن هذا المعنى تغير وما عاد هذا المصطلح بالضرورة يدل على مخالفة للدين . مما جعل إحلال أحد المصطلحين محل الآخر أمر شائع ومقبول ومستخدم.
مستشار قانوني – مصرف الراجحي