استشارة أعمال و«قيمة خاتم ذهب»

مكتب استشارات أعمال محلي قدم عرضا فنيا وماليا لدراسة تشتمل على جمع وتحليل بيانات وتشخيص واقع وتقديم توصيات لتطوير وتحفيز نشاط المجوهرات عموما والذهب على وجه الخصوص على مستوى دول مجلس التعاون، وعندما قال أحد الموظفين إن العرض سيرفض لأن الجهة لن تدفع مبالغ جيدة لدراسة عملية منهجية شاملة ودقيقة، وعلينا أن نقلل السعر ونقدم دراسة بجودة أقل بالاستعانة باستشاريين أقل خبرة وأقل تكلفة، وكان رد المسؤول إن قيمة الدراسة أقل من ''قيمة خاتم ذهب'' بعلامة تجارية مميزة، وبكل تأكيد فإن قيمة الدراسة أعلى من قيمة هذا الخاتم لأهميتها وضرورتها في تطوير السوق من خلال خبرات استشارية تقدم أفكارا تطويرية على بينة للوصول بالسوق لأعلى فاعلية وكفاءة ممكنة.
قصة مؤلمة لكل ذي لب اقتصادي لعلمه بأهمية الدراسات العملية الحديثة الدقيقة الشاملة في صناعات القرارات الرشيدة التي ترفع من درجات النجاح وتقلل من درجات الخطر، نعم فكل اقتصادي متخصص يدرك أن منهجية أي قرار يتعلق بتأسيس أو تطوير الأعمال لا يتم إلا من خلال منهجية تنطلق من الدراسات التحليلية والتشخيصية ومن ثم الاستفادة من الخبرات الاستشارية في مجالات التسويق والمال والإدارة والمجالات الفنية والقانونية لاتخاذ القرارات أو لبناء الخطط التطويرية الاستراتيجية والتنفيذية وفق جداول زمنية محددة، وبالتالي كلما كانت هذه الدراسة عالية الجودة كلما ارتفعت جودة القرارات أو الخطط بأنواعها كافة، وجودة الدراسة مقرونة بنوعية الخبرات الاستشارية، والخبرات الضليعة المحترفة الإبداعية ذات تكاليف عالية.
يقول البعض ''الرخيص بخيس''، ويقول آخرون ''الرخيص غالي'' وهو ما أميل إليه، إذ إنه وبكل تأكيد الخدمات والسلع الرخيصة من جهة عدم مطابقتها للشروط والمواصفات الملائمة مكلفة لما يترتب عليها من آثار سلبية عالية التكلفة ما يجعل تكلفتها غالية جدا، ولكم أن تتخيلوا لو أن أحدا اشترى إطارا لسيارته غير ملائم لانتهاء صلاحية أو رداءة صناعته لرخصه مقارنة بالإطارات الجيدة ثم انفجر هذا الإطار وانقلبت السيارة أثناء وجود كامل الأسرة نتيجة لذلك، فكم ستكون تكلفة الإطار الرخيص الحقيقية؟ بكل تأكيد إنها تكلفة عالية جدا لا يمكن تخيلها، وهكذا النتائج التي يمكن أن تحدث لمن يسترخص دراسات واستشارات الأعمال لما هو دون قيمة ''خاتم ذهب'' لتنظيم سوق ذهب إقليمية!
شركة دودج الأمريكية لصناعة السيارات كادت أن تقع أواخر السبعينيات في براثن الإفلاس لولا أن أنقذتها الحكومة الأمريكية لأنها لم تجر دراسات سوقية حديثة لمواءمة إنتاجها من السيارات بما يتناسب ومتغيرات السوق، حيث استمرت بإنتاج السيارات الكبيرة التي تستهلك كميات كبيرة من الوقود رغم تحول الطلب من السيارات الكبيرة إلى السيارات الصغيرة بسبب ارتفاع أسعار الوقود بشكل كبير على خلفية ارتفاع أسعار النفط بعد حرب 6 أكتوبر عام 1973، وهذا مثال يبين أهمية الدراسات والجهود الاستشارية الفكرية عميقة الخبرات كعناصر حاسمة في استمرارية المنشآت الاقتصادية وفي تطوير الأعمال والأسواق بأقل درجة من المخاطر دون الحاجة للمرور بمرحلة التجربة والخطأ عالية التكلفة.
يقول البعض إن سوق الدراسات والاستشارات في بلادنا ما زالت سوقا ناشئة في بلادنا، وأقول نعم هي كذلك من جهة كم ونوع عناصرها ومن جهة وعي هذه العناصر وكفاءتها والعلاقة بينها، ولكن ما الخيار الآخر؟ الخيار الآخر هو العمل بعشوائية وبآراء وانطباعات شخصية وخبرات محدودة ذات أبعاد عاطفية غير محايدة، وكلنا يعلم الآثار السلبية للعمل بهذه المنهجية التي تقول بجهود فكرية قليلة مقابل جهود تنفيذية كبيرة جلها يمكن تفاديه لو أن الدراسات والجهود الفكرية أعطيت حقها، والضليعون في علم الإدارة يعرفون أن مخرجات هذه المنهجية العشوائية سيئة للغاية بعضها يكون مشكلات جديدة ومؤلمة تستدعي هي الأخرى جهودا وتكاليف لمعالجتها.
إذن لا خيار منطقيا ــــ ولقد سبقنا إليه الآخرون ــــ سوى بإعادة بناء موقفنا تجاه الدراسات والاستشارات من جهة الأهمية، والضرورة ومن جهة الجودة، ومن جهة التكاليف، وهو موقف سيتبعه سلوك يؤصل لتطور متسارع لارتفاع مستوى الدراسات والاستشارات بمرور الزمن متى ما أصبحت بضاعة مهمة وضرورية ولها معايير يمكن تأهيل مقدميها قبل التورط بالتعامل معهم وتحمل تكاليف استشاراتهم.
أحد المديرين في أحد الأجهزة الحكومية قال لي وبالحرف الواحد إن مسؤوله المباشر قال له لا تتخذوا أي خطوة تنفيذية بشأن أي خطة أو مشروع إلا بالاستعانة بمستشارين متخصصين، ويقول إنه استنكر هذا الأمر من المسؤول وهو صاحب الخبرة الطويلة في مجال عمله إلا أنه قبل أمر المسؤول على مضض ونفذه، وعند ذلك أدرك أن سني خبرته الطويلة ما هي إلا تكرار لأخطاء كان يفعلها تكلف الكثير من الوقت والجهد والمال دون مخرجات تستحق كل ذلك إذ حققت الاستشارات قفزات كبيرة في جودة العمل وانخفاض مدة تنفيذه وتكاليفه بشكل كبير.
آخرون ما زالوا يظنون ظن هذا المدير السابق حتى الآن وما زالوا لا يرون أي أهمية للدراسات والاستشارات، ويرون أن تكاليفها أموال مهدرة وأن الطريقة المثلى هي العمل التنفيذي مباشرة، وأن التجربة والخطأ هي الطريقة المثلى للإنجاز، ولذلك نجد نتائج أعمالهم ضعيفة إن لم تكن مخزية في كثير من الأحيان، وهو أمر يتطلب حسبما أعتقد تدخلا من جهة تمنع العمل في أي مشروع أيا كان ولا سيما المشاريع الكبيرة والمهمة ذات الأبعاد المتعددة دون الاستعانة بمكاتب دراسات واستشارات متخصصة ومؤهلة.
ختاما: إذا تذكرنا تقارير ديوان المراقبة العامة بشأن المشاريع المتأخرة وأثر ضعف التخطيط البالغ في هذا التأخير أصبح لزاما علينا أن نجد صيغة ملزمة لعدم السماح بتنفيذ أي مشروع أو أي خطة دون الاستعانة بمكاتب دراسات واستشارات تدرس وتحلل وتشخص وتوصي وتطرح حلولا ناجعة تحقق أعلى مستويات الفاعلية والكفاءة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي