أسرار بلاغية مع التدبُّر (1 من 2)

يتجدد الحديث عن القرآن الكريم كل يوم ويزداد الحديث عنه شرفا في شهر رمضان الذي هو شهر القرآن، ويعد شهر رمضان محطة روحية للعبد لتنقية الشوائب النفسية والآفات الروحية التي يتعرض لها طوال العام، وكم من مريض عالج نفسه بالقرآن فدعا بآياته ووقف عظاته فهما وتفكرا؛ ولذلك ورد عن شيخ الإسلام بن تيمية في أسلوب القراءة للقرآن ما يسمى بالقراءة التصويرية، حيث قام بها أثناء قراءته على مريض كان يشكي من بطنه، فأخذ يرقي على مريض هذه الآيات: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا(1) وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا(2) وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا(3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)).
وأخذ يكرر (وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا) وهو يتصور خروج المرض كما تخرج الأرض أثقالها فتم - بإذن الله - شفاء المريض. إن القرآن مدرسة شاملة لنواحي الحياة وكل آية فيه تستدعي الوقوف والتأمل، وسنقف مع آية التدبر في قوله تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)، هذه الآية الكريمة وردت في سورة النساء المدنية التي عنيت - كما عنيت سائر السور المدنية - بالحديث عن الأحكام التشريعية، كما عنيت كذلك بالحديث عن أهل الكتاب والمنافقين، فمن يتأمل مطلعها يجد أنها بدأت بالحديث عن حقوق الأيتام، وخاصة اليتيمات في حجور الأولياء، كما كشفت عن حقوق المرأة عند عقد القران عليها، ثم ذكرت بالتفصيل أحكام المواريث، كما تحدثت عن المحرمات من النساء بمختلف أنواع التحريم نسبا ورضاعة ومصاهرة، كما تناولت حق الزوج على زوجته، وحق الزوجة على زوجها، وغير ذلك من أحكام.
ثم انتقلت للحديث عن أهل الكتاب، ثم تحدثت عن المنافقين من قوله تعالى (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) (النساء: 65)، واستمرت في الحديث عنهم على نهاية الآية (91)، ومن ثم، فإن هذه الآية الكريمة المشار إليها وردت في سياق الحديث عن هؤلاء المنافقين كما سيتضح بعد بجلاء.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ذكرها ابن عادل فقال: "ووجه النظم: أنه سبحانه وتعالى لما حكى أنواع مكر المنافقين وكيدهم، لأجل عدم اعتقادهم صحة دعوى النبي - صلى الله عليه وسلم - للرسالة، فلا جرم أمرهم الله تعالى بأن ينظروا ويتفكروا في الدلائل الدالة على صحة النبوة، فقال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)، فتدبر القرآن حق التدبر فيه أمارة قاطعة، وحجة ساطعة على صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم -.
والهمزة في قوله: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ) اختلف في معناها: فقيل: هي: "استفهام بمعنى الأمر، كقوله تعالى: ( أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ) وقيل: هي للاستفهام الإنكاري، يقول أبو حيان: "وهذا استفهام معناه الإنكار، أي: أفلا يتأملون ما نزل عليك من الوحي، ولا يعرضون عنه، فإن في تدبره يظهر برهانه ويسطع نوره، ولا يظهر ذلك لمن أعرض عنه، ولم يتأمله".
والسياق القرآني يؤيد الرأي الثاني تماما؛ لأن هذه الآية الكريمة وردت في سياق الإنكار على هؤلاء المنافقين، أي: ما كان ينبغي حدوث ذلك منهم. ومن يتأمل في دلالة هذا الاستفهام الإنكاري يلحظ مجيئه مصحوبا أيضا بتوبيخهم على عدم التدبر، والتعجب من حالهم في استمرارهم على نفاقهم مع توافر أسباب الهداية لهم، وهو القرآن الذي يردده الرسول - صلى الله عليه وسلم - على مسامعهم، وبين ظهرانيهم ليل نهار، وهذا ما ذكره ابن عاشور، فقال: "الاستفهام إنكاري للتوبيخ والتعجب منهم في استمرار جهلهم مع توفر أسباب التدبير لديهم"، فالقرآن الكريم يدعو إلى التدبر والاستماع الداخلي له حتى تصل أصداؤه إلى عمق النفس البشرية، يقول ابن القيم - رحمه الله -: "الناسُ ثلاثةٌ: رجلٌ قلبُه ميّتٌ، فذلك الذي لا قلبَ له، فهذا ليست الآية ذكرى في حقه".
الثاني: رجلٌ له قلب حيٌّ مستعدٌّ، لكنه غير مستمعٍ للآيات المتلُوةِ، التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة، إما لعدم وُرُودها، أو لوصولها إليه وقلبه مشغولٌ عنها بغيرها، فهو غائبُ القلب ليس حاضرا، فهذا أيضا لا تحصُلُ له الذكرى، مع استعداده ووجود قلبه.
والثالث: رجلٌ حيُّ القلب مستعدٌّ، تُليت عليه الآيات، فأصغى بسمعه، وألقى السمع، وأحضرَ قلبه، ولم يشغلْه بغير فهم ما يسمعُهُ، فهو شاهدُ القلب، مُلقي السَّمع، فهذا القِسمُ هو الذي ينتفع بالآيات المتلوَّة والمشهودة.
فالأول: بمنزلة الأعمى الذي لا يُبصر.
والثاني: بمنزلة البصير الطَّامح ببصره إلى غير جهةِ المنظور إليه، فكلاهما لا يراه.
والثالث: بمنزلةِ البصير الذي قد حدَّق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره، وقابله على توسُّطٍ من البُعد والقربِ، فهذا هو الذي يراه.
وللحديث بقية صلة في المقال القادم بإذن الله، نسأل الله لنا ولكم القبول والمغفرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي