الأحياء العشوائية في جدة.. وجودة الحياة المفقودة

على الرغم من أن جدة ثاني أكبر مدن المملكة، فسكانها يتجاوزون 3.4 مليون نسمة نصفهم من الوافدين، إلا أن ثلثهم يعيش في أحياء عشوائية يبلغ عددها 52 حيًا من مجموع أحياء جدة التي تجاوزت المائة. إن الأحياء العشوائية أحياء كبيرة تغلب عليها العشوائية في مساكنها وطرقاتها وخدماتها نتيجةً لتراكمات الماضي المتأثر بظروف إدارية واجتماعية واقتصادية، وغالبًا يسكنها مواطنون من أصحاب الدخل المحدود ووافدون نظاميون وغير نظاميين. ومن خلال معايشتي للموضوع منذ عقدين من الزمان، ومحاولتي الكتابة عنه منذ ما لا يقل عن سنتين أود تسليط الضوء على الأحياء العشوائية من خلال ما يلي:
أولًا: مظاهر ومواطن تردي مستوى الأحياء العشوائية، لا شك أن أغلبية الأحياء العشوائية لم تكن كذلك من قبل، بل كان بعضها يعد حاضرة جدة وقبلتها، لذا اتخذتها الحكومة وولاة الأمر آنذاك مقرًا لهم ولسكنهم كالنزلة ومدائن الفهد والثغر مثلاً، وما زالت القصور والمباني شاهدةً على ذلك، فكيف أصبحت اليوم أحياء عشوائية بعد أن كان لها الصدر في المدينة؟ ولماذا أصبحت تعيش في أوضاعٍ أمنية واجتماعية وصحية مزرية وفي بعضها كارثية!
الخدمات التي تميزت بها منذ أكثر من ثلاثة عقود كشبكات المياه والصرف الصحي ساءت أحوالها فأصبحت مصدرًا مقلقًا لسكانها من اختلاط بينهما، وتسريبات، وتجمعات مياه آسنة ذات خطورة على الصحة العامة للسكان ومأوى للبعوض ومرتادًا للأطفال (''المدينة'' عدد: 17624).
أيضًا؛ استمرار المشكلة المزمنة في الأحياء الشعبية، ألا وهي تراكم أكوام النفايات التي تكثر في الطرقات والأزقة وبين البيوت والمسببة للروائح الكريهة والمناظر المقززة، تكاثر الذباب بشكل كبير (''المدينة'' - عدد: 17621)، وأيضًا عجز الأمانة عن محاربة جيوش الفئران والجرذان التي تجول بين البيوت وفي الطرقات بصورة مخيفة مهددة بكوارث صحية (''عكاظ'' - عدد: 3624)! كمرض الطاعون الذي ظهرت حالة اشتباه به لطفلة عمرها سنة ونصف السنة (''الوطن'' 16/2/2011). ومن ذلك حمّى الضنك التي أصبحت جدة لها موطنًا، لا أعلم متى يتم القضاء عليها على الرغم من الميزانيات الهائلة التي أصبحت مرتعًا للطامعين! (''المدينة'' 29/8/2010).
كذلك من مشكلاتها ومآسيها كثرة البيوت الآيلة التي بلغ عددها نحو 37 ألف منزل بناءً على ما صرح به أحد مسؤولي الأمانة (''الشرق الأوسط'' عدد: 11554)، فنحن نسمع ونقرأ كل فترة وجيزة عن سقوط بيوت على أهلها الآمنين، أليس ذلك جراء المنع الصارم للبناء أو حتى الترميم إلا بواسطة أو عن طريق دفع مبالغ من وراء حجاب!
أيضًا؛ الطرق والشوارع التي تضيق على أهلها من الزحام المطبق بصورة مستمرة ومضنية، وبالذات أيام وليالي المناسبات كالأعياد مثلاً، وكذلك كثرة الأزقة والشوارع الضيقة، حتى إن الدفاع المدني أحيانًا لا يستطيع الوصول إلى أماكن الحرائق إلا بعد أن يفوت الفوت ويختنق، بل يحترق البيت بمن فيه! (''الرياض'' - عدد: 12725).
ومن أخطر المظاهر كثرة وانتشار المشكلات الأمنية كالسرقات والسطو المسلح والقتل والاغتصاب في الأحياء العشوائية، وبحسب تصريح مدير شرطة محافظة جدة فإن الجرائم ترتفع بنسبة عالية في المناطق العشوائية (الشرق الأوسط، عدد: 10863)، ولم يعد السكان يرون سيارات الشرطة داخل الحياء إلا نادرًا.
هذا وتشتكي الأحياء العشوائية من الكثافة السكانية التي تزداد سنويًا بنسبة كبيرة، فهذا حي الجامعة مثلًا، الذي يشغل منطقة استراتيجية جنوب جامعة الملك عبد العزيز، يسكنه على حسب إحصائية التعداد السكاني لعام 1425هـ 134 ألف نسمة على مساحة صافية لا تزيد على خمسة كيلو مترات مربعة.
ومن ضمن المشكلات الكبرى للأحياء الشعبية كثرة الجاليات الإفريقية والآسيوية نتيجة رخص السكن وسهولة التخفي عن أنظار الجهات الأمنية، لذا أصبحت هذه الأحياء تشكل ملاذًا آمنًا لمخالفي أنظمة الإقامة والعمل ومأوى للأنشطة الإجرامية بعيدًا عن أعين الرقابة، وبالذات من الجيل الثالث الذين ولدوا في البلد وتعرضوا للحرمان من التعليم ومن العمل لأن أغلبيتهم بلا هويات نظامية، فأصبحوا قنبلة موقوتة لا ندري متى وكيف تنفجر؟ إن خطر المخالفين استفحل ولا بد له من حلول وقائية وتصحيحية عاجلة بترحيل المجرمين وتصحيح أوضاع المخالفين، ومن الاقتراحات في هذا الشأن، التي هي جديرة بالاهتمام، القيام بتأسيس جمعية أهلية تقوم برعاية الجاليات اجتماعيًا واقتصاديًا ودراسة أحوالهم واحتياجاتهم المختلفة والتنسيق والتعاون مع الجهات المختصة لتصحيح أوضاعهم.
ثانيًا: حَلُّ الإزالة الكاملة للأحياء العشوائية
إن وجود أحياء عشوائية في المدن لا يختص ببلادنا فحسب، إنما هي ظاهرة موجودة في كثير من بلدان العالم، فليس عيبًا ولا مستغربًا وجود أحياء عشوائية، بل العيب والخلل في ضعف الخدمات الأمنية والاجتماعية والصحية المقدمة لها وترديها بشكل غير حضاري ولا إنساني، وكلنا يعلم ما قامت به إمارة منطقة مكة المكرمة من جهود كبيرة لعلاج مشكلات الأحياء العشوائية من خلال السعي للإزالة الكاملة لبعض الأحياء (لائحة تطوير المناطق العشوائية في منطقة مكة المكرمة)، وكانت البداية بمشروع خزام الذي يضم أربعة أحياء عشوائية ثم مشروع الرويس، وفي رجب من عام 1431هـ (''عكاظ'' عدد: 3308) تم اعتبار حي الجامعة هو المشروع الثالث. وهنا أحب أن أشارك القارئ الكريم وجهة نظري من خلال ما يلي:
1. أبدأها بتساؤل طالما فكرت فيه: هل مشروع الإزالة بالكامل للمشاريع التي أعلن عنها سيكون منسحبًا على جميع الأحياء العشوائية؟ فإن كان الأمر كذلك، فهل هذا ممكن من الناحية المادية ويمكن تنفيذه واقعًا؟ خصوصًا مع تعثر الشركة التي ستقوم بتنفيذ تطوير مشروع خزام وهذا المشروع الأول، فكيف يمكن إزالة أكثر من 50 حيًا ذات مساحة واكتظاظ سكاني أكبر وليست ذات محفزات استثمارية؟ أما إذا كانت الإزالة لبعض الأحياء فأين الجهود والخطط لتصحيح أوضاع الأحياء العشوائية الأخرى التي ينبغي أن تكون متوازية، بل مقدمة على مشاريع الإزالة؟
2. يختلف تجاوب سكان المشروعين المذكورين مع الجهات المعنية - وكما كان متوقعًا - لذا نصت عليه اللائحة المشار إليها في المادة رقم 52، إلا أن كثيرًا منهم يشعر بالظلم ويصرحون بعدم الموافقة على الإزالة، كما أن بعضهم متردد جراء الخوف من عدم الحصول على تعويض مجزٍ، خاصة في زمن الغلاء وندرة السكن، فضلًا عن شريحة المستأجرين الكبيرة من المواطنين والمقيمين الذين مضى على وجودهم عقود عدة من الزمان ولا بدائل لهم، تجعل من الاستمرار في المشروعين بهذه الصورة مستحيلًا من الجهة الشرعية والإنسانية ونحن في مملكة الإنسانية.
3. إن التكاليف المتوقعة لإتمام مشاريع الإزالة باهظة وضخمة، فبالنسبة لمشروع خزام تبلغ التكاليف 12 مليار ريال، بينما مشروع الرويس تزيد التكاليف على ستة مليارات ريال على أقل التقديرات (''المدينة'' العدد: 17624)، فهل يعقل أن ننفق هذه المبالغ الكبيرة لتأهيل أحياء بأرقى المباني والتجهيزات وما حولها يئن من النقص والخلل في البنية التحتية؟ أليس الأجدر من ذلك الاستثمار في إنشاء مدينة جديدة في منطقة استراتيجية ذات مواصفات عالمية ومميزات للمستقبل؟ كما نجح الماليزيون في إنشاء مدينة بوتراجايا كعاصمة إدارية جديدة لماليزيا تقع بين كوالالمبور ومطارها الدولي بتكلفة نهائية مقدرة بـ8.1 مليار دولار! وتسع 150 ألف نسمة.
إن وضع الأحياء العشوائية في تردٍّ مستمر، ووصل الحال ببعضها إلى أنها لم تعد مناسبة للعيش الآدمي في ظل الكوارث الطبيعية ككارثة أمطار جدة كما صرح بذلك رئيس جمعية حقوق الإنسان عند زيارته حي الجامعة ك6 بعد الكارثة الأولى، لذا فلا بد من عمل حلول عاجلة مع الحلول طويلة الأجل من تكثيف المراكز والدوريات الأمنية، وتصحيح وضع الجاليات النظامية وغير النظامية، وفتح طرق رئيسة جديدة داخل الأحياء وسفلتة الشوارع وإعادة تأهيلها، وتصحيح وضع الخدمات كالمياه والصرف الصحي، والعمل على إبادة القوارض من الفئران والجرذان بصورة جذرية، وإزالة النفايات بصورة مستمرة ومعاقبة المتهاونين في ذلك، وعمل شبكة تصريف سيول عاجلة خاصة في المناطق ذات المناسيب المنخفضة وإعادة تأهيل الشبكة القديمة إن وجدت، وإقامة مشاريع تنموية وتشغيلها من قبل أهالي الحي المحتاجين، وإنشاء مراكز أحياء اجتماعية وتثقيفية للسكان من المواطنين والوافدين، والسماح للسكان بالبناء مع وضع ضوابط ومواصفات معينة للبناء وبالذات في واجهات الأحياء.
كلنا أمل في الله - عز وجل - ثم في الأمير الفذ خالد الفيصل - الذي نحسب أنه لا يألو جهدًا في تصحيح أوضاع جدة عمومًا والأحياء العشوائية خصوصًا، بهدف تطوير الإنسان فيها سواء كانوا من السعوديين أو المقيمين - في أن يسعى وبصورة عاجلة لتحقيق مطالب السكان فالحال لم يعد يحتمل التأخير، ويخشى أن تنظم لقائمة الأحياء العشوائية الحالية أحياء أخرى تنتظر دورها نتيجةً لتقصير بعض الإدارات الحكومية في تقديم الخدمات المطلوبة!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي