عندما تتعالى السلعة على المستهلك

تشير السلسلة الزمنية السنوية للرقم القياسي العام لأسعار الجملة الصادرة من مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات إلى مجموعة من التطورات في أسعار الجملة لمجموعة من السلع الاستهلاكية خلال العقد الماضي. من أهم هذه التطورات أن المتوسط السنوي لأسعار السلع الاستهلاكية قد سلك سلوكا تنازليا مما يوضح أن أسعار هذه السلع في انخفاض مستمر طيلة العقد الماضي.
على سبيل المثال، فمتوسط أسعار الجملة للأطعمة والحيوانات الحية المخصصة للاستهلاك البشري بلغ نموا بمقدار 3.7 نقطة خلال الفترة 2001-2010. ونجد كذلك أن معدل النمو السنوي انخفض إلى 2.7 خلال الفترة 2006-2010. بمعنى آخر أنه على الرغم من أن أسعار هذه السلع تنمو سنويا خلال العقد الماضي، إلا أن معدل النمو هذا في اتجاه تنازلي. يقودنا ذلك إلى أن نفترض أن أسعار السلع الاستهلاكية حسب أسعار التجزئة ستسلك الاتجاه ذاته مع تجاوب ربحية تاجر الجملة مع هذه التطورات.
وعلى الرغم من ذلك يبقى السؤال عن مدى تجاوب هذه الأطراف مع السلوك العام لأسعار السلع الاستهلاكية؟ وماذا عن ردة فعل المستهلك مع التجاوب غير المنطقي لأي طرف من أطراف إنتاج السلع الاستهلاكية وتجارتها؟
تحمل صفحات التاريخ الهندي أنموذجا جديرا بالمدارسة لحالة تجسد فيها سلوك المستهلك وتعامله مع التطورات غير المبررة في خصائص السلع الاستهلاكية وأسعارها. تعود الحادثة إلى منتصف التسعينيات الميلادية عندما سجلت مؤشرات الاقتصاد الهندي نهاية الألفية الماضية مستويات قياسية تبشر بنهضة اقتصادية واجتماعية شاملة تنتظر الاقتصاد الهندي في المستقبل القريب، وممهدةً الطريق للارتقاء بالاقتصاد الهندي إلى مصاف الاقتصادات المتقدمة.
شجعت هذه المؤشرات الاقتصادية عددا ليس بالقليل من الشركات العالمية لمشاركة الاقتصاد الهندي نهضته عن طريق فتح قنوات استثمارية مباشرة في مجالات اقتصادية هندية عديدة. من هذه الشركات العالمية شركة المطاعم الأمريكية الشهيرة ''ماكدونالدز''.
دخلت ''ماكدونالدز'' السوق الهندية في أواخر التسعينيات الميلادية، مدعومة بخبرتها الطويلة في التعامل مع أسواق ناشئة ومتقدمة مختلفة، وإمكاناتها الضخمة التي طورتها منذ تأسيسها في منتصف الخمسينيات الميلادية.
اختارت ''ماكدونالدز'' آلية الامتياز للدخول في السوق الهندية عندما أعطت حق الامتياز إحدى الشركات الغذائية الهندية. بدأت ''ماكدونالدز'' بافتتاح قرابة 30 مطعما في مختلف المدن الرئيسة الهندية، مع التمركز بشكل أساسي في كل من نيودلهي ومومباي.
لم تكن عملية دخول ''ماكدونالدز'' في السوق الهندية بالمهمة اليسيرة، حيث لم تلبث أن طفا على السطح عديد من التحديات التسويقية والتشغيلية عندما عزف المستهلك الهندي عن شراء منتجات ''ماكدونالدز'' الشهيرة من الوجبات السريعة، مخيبا آمال ''ماكدونالدز'' في الانتشار، والاستقرار في السوق الهندية.
فمن جهة، تعد ''ماكدونالدز'' أكبر مستهلك عالمي للحم البقري، عطفاً على اعتماد خطوط إنتاج ''ماكدونالدز'' على اللحم البقري، كمادة أولية رئيسة لإنتاج معظم وجباتها. ومن جهة أخرى، يعد البقر كائنا مقدسا لدى شريحة كبيرة من الشعب الهندي، عطفاً على معتقدات الطائفة الهندوسية، التي تشكل قرابة 80 في المائة من تعداد السكان.
تمحور حجر الزاوية، إذاً، حول الكيفية التي ستتعامل بها ''قتلة البقر'' مع ''عبدة البقر''؟ هل تتوقف ''ماكدونالدز'' عن قتل البقر؟ هذا يعني إيقاف خط الإنتاج الاستراتيجي، هل تستبدل ''ماكدونالدز'' لحم البقر بلحم الخنزير؟ هذه يعني أنها ستفقد قرابة 15 في المائة من حجم الشريحة المستهدفة، عطفا على أن المسلمين يشكلون قرابة 15 في المائة من أفراد الشعب الهندي. هل تخرج ''ماكدونالدز'' من السوق الهندية؟ هذا سيؤثر سلبا في تنافسيتها في السوق العالمية. ما الحل إذاً لتفادي هذه التحديات التسويقية والتشغيلية؟
طورت ''ماكدونالدز'' وجبة تعتمد على لحم الماعز بدلاً من لحم البقر، وأطلقت عليها اسم ''مهراجا ماك''، لتحل بديلاً عن ''بيج ماك''. كما طورت وجبة أخرى تعتمد على لحم الدجاج المذبوح على الطريقة الإسلامية ''حلال''، وأطلقت عليها اسم ''تيكا ماك''، لتحل بديلاً عن ''ماك تشيكن''. وطمعاً في إرضاء ذوق المستهلك الهندي، أضافت ''ماكدونالدز'' مزيجا من التوابل الهندية الشائعة إلى مكونات كلتا الوجبتين.
لم تتوقف عملية تطور المنتجات عند هذا الحد، بل تعدتها لتشمل نسخة من هذه الوجبات تعتمد على الخضراوات بدلا من اللحوم، وذلك تلبية لرغبة شريحة النباتيين الهنود، التي تشكل النسبة المتبقية من الشريحة المستهدفة.
لم تشفع كل هذه الوجبات الجديدة لـ ''ماكدونالدز'' في السوق الهندية، واستمر المستهلك الهندي في المقاطعة السلمية لمنتجات الشركة. حيث تمحور حجر الزاوية هذه المرة حول شبهات احتواء الزيت النباتي الذي تستخدمه ''ماكدونالدز'' على مشتقات اللحم البقري، ما يعني احتمالية فقدان كل شرائح المستهلك الهندي من الهندوس، المسلمين، والنباتيين.
اتخذت المقاطعة هذه المرة منهجية أكثر فاعلية عندما قام ثلاثة رجال أعمال أمريكيين من أصل هندي، برفع دعوى قضائية على ''ماكدونالدز'' في أمريكا، ومدعمة بنتائج مخبرية تثبت احتواء الزيت النباتي على مشتقات من اللحم البقري.
لم تلبث الدعوى طويلا في أروقة المحاكم الأمريكية حتى حكم لمصلحة رجال الأعمال وملزمةً ''ماكدونالدز'' ليس بدفع غرامة مقدارها عشرة ملايين دولار أمريكي فحسب، وإنما بإصدار اعتذار رسمي للسوق الهندية تعترف فيه بفشل مصداقيتها مع المستهلك الهندي.
لم تتوقف المقاطعة عند النطق بالحكم، بل تطورت لتتخذ أشكالاً عسكرية وسياسية مختلفة. حيث انتقلت الأخبار سريعاً من قاعة المحكمة إلى العاصمة الهندية نيودلهي، دافعة مجموعة من المستهلكين الهنود إلى النزول إلى الشارع، ومهاجمة أحد مطاعم ''ماكدونالدز''، ومحدثة أضرارا مادية قدرت بنحو 50 ألف دولار أمريكي. تزامن هذا الهجوم مع اعتصام مجموعة أخرى من المستهلكين الهنود أمام مكتب رئيس الوزراء الهندي بيهاري وآجيابي، مطالبة بإغلاق جميع مطاعم ''ماكدونالدز'' في السوق الهندية.
لم تجد ''ماكدونالدز'' من حل سوى إعادة هيكلة عملياتها التشغيلية والتسويقية بعد ستة أشهر من دخولها السوق الهندية بما يتوافق واحتياجات المستهلك الهندي، ولا يتعارض مع ثوابته ومعتقداته. جنت ''ماكدونالدز'' ثمار إعادة هيكلة العمليات بعد عدة سنين عندما احتفلت بالاستمرار في افتتاح فروع جديدة.
من أحد أهم الدروس المستفادة من تجربة مقاطعة المستهلك الهندي منتجات ''ماكدونالدز'' أهمية تنظيم مقومات سوق المستهلك تنظيماً قانونياً، وعلمياً، وسياسياً بما يمكنها من استقطاب أكبر كمية ممكنة من السلع الاستهلاكية بأقل كمية ممكنة من التكلفة على المستهلك. معادلة متى ما قامت ستسلك أسعار التجزئة الاتجاه ذاته الذي سلكته أسعار الجملة في تناغم منطقي يصب في نهاية المطاف في مصلحة المستهلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي