المرض من هولندا .. والضحية في أستراليا
كانت الصين مفيدة بالنسبة إلى جينا رينهارت. لقد رفعت طفرة السلع التي أشعلها الطلب من جانب ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وريثة الحديد الخام الأسترالية إلى أعلى لائحة أثرياء العالم، بثروة تقدر بنحو عشرة مليارات دولار.
على الأرجح ألا يكون ذلك نهاية الأمر. وتشير الأبحاث الصادرة عن بنك سيتي غروب إلى أن ملكيتها الخاصة لثلاثة من أكبر عشرة مشاريع تنقيب غير مطورة في العالم، وجميعها في أستراليا، يمكن أن تدفعها لتنضم إلى لائحة أغنى أغنياء العالم، إلى جانب كارلوس سليم، قطب الاتصالات المكسيكي، وبيل جيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت.
يطلق عليها السيدة الحديدية لبيلبارا - منطقة الحديد الخام الشمالية المهجورة في غربي أستراليا - حيث عملت رينهارت بصعوبة لتجديد قطاع التعدين المثقل بالجدل الذي تركه لها والدها، لانج هانكوك، قبل عقدين من الزمن. وحقق أحد أعظم اكتشافات الموارد في التاريخ، حينما اكتشف أودية كبيرة من الحديد الخام في البرية النائية.
#2#
حيث إنها تحصل على أعلى إتاوة دائمة تصل قيمتها الآن إلى أكثر من مائة مليون دولار أسترالي (105 ملايين دولار) سنويا تدفعها شركة ريو تينتو، مجموعة التعدين في لندن، على مبيعاتها من الحديد الخام غربي أستراليا، تملك شركة أنكوك بروسبيكتنج المملوكة بشكل خاص من قبل رينهارت نصف حصة إلى جانب شركة ريو إن هون دونز، وهي مؤسسة أخرى للحديد الخام تنتج 30 مليون طن سنويا. واعتمادا على سعر الحديد الخام البالغ 170 دولارا أستراليًّا للطن، وتكاليف إنتاج تبلغ 40 دولارا أستراليا للطن، فإن رينهارت، وشركة ريو، تقتسمان الأرباح التي تقارب أربعة مليارات دولار أسترالي سنويا من عملية واحدة فقط.
تجسد رينهارت المنعزلة في العادة - يقول البعض إنها كتومة - الثورة التي تتولد في أستراليا، حيث كانت الطفرات والانفجارات السمة المميزة منذ حمى الذهب في البلاد خلال خمسينيات القرن التاسع عشر.
ولكن الجائزة في هذه المرة كبيرة للغاية، بحيث إنها دفعت بالبنود التجارية للبلاد - نسبة أسعار الصادرات إلى تكاليف الواردات - إلى مستويات قياسية، وأدت إلى اندفاع الاستثمارات نحو قطاعات الحديد الخام، والفحم، والغاز الطبيعي.
غير أن التوسع السريع - وارتفاعا مرافقا في سعر الدولار الأسترالي ينظر إليه في أسواق المال العالمية كبديل لطفرة السلع – فرض تغييرات هيكلية مؤلمة على المجالات غير المتعلقة بقطاع التعدين في أستراليا، وأدى إلى جدل شديد حول ''الجانب المظلم'' من الطفرة. ويقول بول كليري، مؤلف الكتاب الذي نشر حديثا بعنوان: ''الكثير للغاية من الحظ: طفرة التعدين ومستقبل أستراليا Too Much Luck: The Mining Boom and Australia’s Future ''، إن ذلك يغير البلاد بشكل لا يمكن الرجعة عنه – وليس نحو الأفضل بالضرورة.
يقول كليري: ''جدد الطلب المرتفع على حديدنا الخام وغازنا، فورة ''الحمى التي لم تنته على الإطلاق. ولكن ما لم نسيطر على هذه الطفرة الاستثنائية بشكل أكثر كفاءة، فسيكون حظنا الجيد لعنة الأجيال المقبلة''.
في الوقت الذي تصارع فيه أوروبا والولايات المتحدة، تحت ثقل الديون التي تسبب الشلل، ومعدلات البطالة العالية، تتحدى أستراليا الاتجاهات العالمية - سريعا ما سيدخل البلد الذي يبلغ عدد سكانه 23 مليون نسمة عقدا ثالثا من النمو المتواصل.
وحيث إن معدل البطالة عند نحو 5 في المائة، فإنه بالكاد يصل إلى نصف مثيله في الولايات المتحدة، ومنطقة اليورو. ومن المتوقع أن تعود ميزانية الحكومة إلى تحقيق فوائض في غضون أقل من عامين، ويقف صافي الدين عند نسبة 6 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي.
لكن المبيعات المرتفعة للحديد الخام والفحم كانت تعني أن البلاد ربطت مصيرها بالصين على النقيض من أي بلد متقدم آخر. وتعرضها هذه الصلة الحميمية إلى نزوات سلطة شيوعية آسيوية، يمكن أن تتخلى عن أستراليا على الفور إذا تم الحصول على سلع أرخص ثمنا في مكان آخر.
في المستقبل القريب، تزعزع الطفرة التي أشعلتها الصين، والقوة المتزايدة لصناعة التعدين، استقرار اقتصاد أستراليا، بدفع قيمة العملة إلى الأعلى، الأمر الذي يضع ضغوطا على الصناعات المكشوفة على التجارة التي تتراوح بين التصنيع والسياحة، وبالتالي زيادة معدل التضخم. وأدى نقص العمال في مشاريع الموارد الكبيرة إلى حدوث ارتفاع حاد في الأجور يهدد بالامتداد إلى صناعات أقل وفرة.
ما عليك سوى أن تسأل شركات الصناعة التي تحاول التصدير، وتلك الصناعات التي تحاول التنافس مع الواردات التي أصبحت رخيصة بسبب قيمة الدولار المحلي، حيث وصل - طالما كان أضعف من قيمة الدولار الأمريكي، لكنه يقوي هذا العام جانبي التكافؤ - إلى أعلى مستوياته منذ قرابة ثلاثة عقود خلال الشهر الماضي بنحو 1.10 دولار أمريكي.
وظهرت دلائل الصعوبات هذا الأسبوع حينما أغلقت بلوسكوب، أكبر مصنع للفولاذ في أستراليا، واحدا من أصل ثلاثة أفران عمليات باقية في البلاد.
تم النظر إلى ذلك الأمر وكأنه ناقوس الموت بالنسبة إلى صناعة تصدير الصلب في البلاد، وذلك في أعقاب التخفيض في نفقات قطاعات الأغذية، والسفر، والتجزئة، وظهرت العناوين الرئيسة صارخة بأن قطاع التصنيع في أستراليا دخل أزمة كذلك.
عرضت المناطق الأكثر ظلمة من الطفرة الحكومة إلى الخطر، حيث تتمسك هذه الحكومة بالسلطة بدعم من جانب حزب الخضر، والمشرعين المستقلين المنشقين، الذين يمنحونها الأغلبية في مجلس النواب. وبعد أن دعمت فرض ضريبة عليا على قطاع التعدين أثناء تولي كيفن رود منصب رئيس الوزراء، وحلت مكانها خطة لفرض ضريبة مخففة للغاية، ما زال ينبغي أن يوافق عليها القانون، يبدو أن الحكومة التي ترأسها الآن جوليا جيلارد، خليفته في منصب رئاسة الوزراء، خسرت فرصة لا تتكرر للحصول على نسبة من الطفرة، وتعيد موازنة اقتصادها. ولم تلق الدعوات لكي تتم حماية بعض الغنائم في صندوق ثروة سيادية أية آذان صاغية في كانبرا؛ الأمر الذي سبب خيبة الأمل للبنك المركزي، وقطاع النشاط العملي.
عرضت الطفرة كذلك مزيج النعم في أستراليا إلى إدمان الصين. وأسهم الطلب النهم من جانب محرك الطاقة الآسيوي على الحديد الخام في جعل أستراليا شريك الصين التجاري المهيمن، ويستقبل نحو 26 في المائة من جميع الصادرات. ولكن حسبما قال ساول إسلاك، من معهد جراتان، المؤسسة الفكرية في ملبورن، فإنه لا توجد أي دولة أخرى في العالم المتقدم أكثر عرضة للخطر من أستراليا، إذا حدث تباطؤ صيني.
بدفع من جانب الصين، تدخل أستراليا على الأرجح مصيدة موارد خطرة تحديدا تعرف باسم المرض الهولندي، بسبب آثار اكتشاف هولندا خلال ستينيات القرن الماضي للغاز الطبيعي في بحر الشمال: يؤدي سعر الصرف المرتفع الذي تدفعه طفرة السلع إلى فراغ في قطاعات أخرى من الاقتصاد.
في قطاع صناعة الصلب، شدت شركة بلوسكوب الأحزمة على الزيادات الكبيرة في تكاليف المواد الخام – على نحو يدعو إلى المفارقة، الحديد الخام، والفحم الذي تشحنه البلاد إلى الأسواق الآسيوية – وأصبحت واردات الصلب أرخص ثمنا بفضل القيمة المرتفعة لعملة البلاد. ودعت نقابات العمال إلى حملة بعنوان ''اشتروا المنتجات الأسترالية''، واتهمت بكين بتقييد قيمة الرينمينبي بشكل مصطنع لزيادة صادراتها إلى أستراليا.
اجتذبت التقارير بأن رينهارت أغفلت الصلب المحلي، وبدلا من ذلك حصلت على مسارات السكة الحديدية لأحد مشاريعها الكبيرة من الصين، انتقادات واسعة. وأشار واين سوان، وزير الخزينة الفيدرالية، إلى أنه كان أمام شركات التعدين المحلية فرصة كبيرة لشراء المزيد من السلع الأسترالية – بما فيها الصلب.
بعد أن خرجت من عزلتها، ظهرت رينهارت على المسرح السياسي في العام الماضي حينما صعدت على ظهر شاحنة مسطحة، وخاطبت حشدا مناهضا لزيادة الضريبة على قطاع التعدين التي كان رود يعتزم فرضها. وصرخت رينهارت عبر ميكروفون ضخم في يدها قائلة بصوت أجش أمام حشد يحمل شعار ''خفضوا الضرائب'': ''ماذا سنقول لأعضاء البرلمان القلقين من حزب العمال في المقاعد الهامشية؟ السبب في أنني أصرخ بصوتي بشأن هذا، حتى في شوارع المدينة، هو أنني أشعر بهذا الأمر بقوة. أشعر بقوة به من أجل مستقبلنا''.
غير أن غضبها هذا اجتذب النقاد، بمن فيهم جيم مكجنتي، المدعي العام السابق لغرب أستراليا من حزب العمال.
وقال مكجنتي لصحيفة صنداي مورنينج هيرالد، بالإشارة إلى شخصية في فيلم وول ستريت: ''كان كل ما يمكنني التفكير فيه هو جوردن جيكو، وهو يصرخ ’إن الجشع أمر جيد‘. وكانت جينا تقول في الأساس ’لا أريد أن أدفع حصتي العادلة من الضريبة – أريد أن أتمتع بما ورثته من أبي‘''.
تعرضت المعركة التي شنتها مجموعة ضغط قطاع التعدين، والممولة بإسهاب إلى ضربة بعد أسابيع حينما تمت الإطاحة برئيس الوزراء رود. وفي ظل رئاسة جيلارد، لم تتمتع صناعة التعدين العاملة في أستراليا بظروف صحية أفضل من هذه.
أبلغت شركة ريو تنتو هذا الشهر عن تحقيق نتائج فصلية قياسية، حيث ارتفعت أرباحها من عمليات الحديد الخام الأسترالية بنحو النصف، إلى ستة مليارات دولار أمريكي، وأنتجت نسبة 78 في المائة من إجمالي المجموعة. وأبلغت شركة بي إتش بي بيليتون، المدرجة في لندن كذلك، ولكن طالما كان ينظر إليها على أنها البطل العالمي لأستراليا، يوم الأربعاء، عن أكبر أرباح سنوية في البلاد بعد الضرائب، ما بنحو 24 مليار دولار أمريكي، أعلى بنسبة 86 في المائة عن العام السابق.
يقول موريس كلوبرز، الرئيس التنفيذي لشركة بي إتش بي: إن ضريبة التعدين المخطط لها ''تعتبر على الصعيد الاقتصادي ما يمكن أن يطلق عليه تكلفة العبء''، ويضيف: ''في المتوسط، إذا زدت التكلفة، فإنك تحصل على استثمارات أقل من السابق''.
على الرغم من مثل تلك التحذيرات، تبدأ الصناعة بطفرة استثمارات غير مسبوقة. ويتم تنفيذ أكثر من 90 مشروعا في صناعة التعدين في أستراليا – تصل قيمتها معا إلى نحو 174 مليار دولار أسترالي، ما يعادل 13 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي. ويرتفع هذا الرقم إلى 832 مليار دولار أسترالي، أو 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي حين يتم شمول المشاريع قيد الاعتبار. ويدعم هذا المعدل من الاستثمارات الأرباح السريعة التي ولدتها شركتي ريو، وبي إتش بي، وأفراد مثل رينهارت.
أشعلت مثل هذه الأرباح الجدل القائم المثير للخلاف فعليا حول اقتصاد أستراليا غير المتناسب. ولخص بول هويز، الأمين القومي لنقابة العمال الأسترالية التي تمثل نحو 135 ألف عامل، المزاج العام حينما هاجم ''العاملين في قطاع التعدين الجشعين'' بسبب عدم استثمارهم في المجتمعات المحلية.
وقال على شاشة التلفزيون: ''إنهم العاملون في قطاع التعدين الذين يتلوون ويصرخون كلما توجب عليهم دفع ضريبة مختلفة''.
كان الرد المحسوب بدقة أعلى من جانب جراهام كرايهي، رئيس مجلس إدارة شركة بلوسكوب، وعضو مجلس إدارة بنك الاحتياطي الأسترالي، الذي قال: إن ضريبة التعدين المصممة بشكل جيد بمشورة قطاع الصناعة، بشكل أكبر ستحصل على الدعم من جانب المواطنين الأستراليين العاديين، ومجموعات المصادر. ويمكن استخدام الأموال المتأتية من مثل تلك الضريبة في المساعدة على انتقال قطاع التصنيع والسياحة إلى اقتصاد جديد، حسبما قال حينما اقتطعت شركته ألف وظيفة.
كذلك، فإن السلطات النقدية تعاني ورطة في الوقت الذي تضع فيه السياسة النقدية لاقتصاد يصفه سوان باقتصاد ''مرقَّع''.
وقد رفع البنك المركزي أسعار الفائدة سبع مرات خلال سنتين بحيث وصلت الآن إلى 4.75 في المائة، وهو أعلى معدل بين بلدان العالم المتقدم. وقد فعل البنك ذلك في سبيل كبح جماح الضغوط التضخمية الناتجة عن طفرة الموارد الطبيعية، لكن إجراءاته تؤدي إلى اندفاع في تكاليف القروض العقارية وتراجعٍ في أسعار المساكن. وهذا بدوره دفع بالمستهلكين القلقين إلى زيادة الادخار وتقليص الإنفاق.
ورغم أن آلان بلوكسهام، الاقتصادي العامل مع بنك إتش إس بي سي في مدينة سيدني، ليس مقتنعا بأن أستراليا تعاني المرض الهولندي، إلا أنه يقول إن هناك قوى هيكلية موجودة وتؤدي إلى إفراغ أجزاء من الاقتصاد. وهو يعد نطاقا من المشاكل المرتبطة بطفرة الموارد. ويقول: ''من ‘اللعنات’ الأخرى الناتجة من وجود الموارد الطبيعية، هو أنها تستطيع أن تضع البلاد تحت رحمة أسواق السلع الدولية التي تكون في الغالب كثيرة التقلب. كذلك يمكن أن تؤدي ثروة الموارد إلى التهاون في مجال السياسة الاقتصادية، كما هو شأن الثروات الأخرى التي تهبط على الناس والتي تأتي دون كسب. وتستطيع هذه الظاهرة أن تعبر عن نفسها على شكل أجندة إصلاح متعثرة''.
وما يؤكد هذه النقطة، هو أن استراليا تظهر دائما في أسفل قوائم التصنيفات الدولية في مجالات التنافسية والإنتاجية والابتكار.
يقول كليري، مؤلف كتاب ''الكثير من الحظ'': إن استراليا تعتمد بشكل كبير على ''الحظ الغبي'' الذي أوجدته فترات الازدهار المتتالية للموارد.
ويقول: ''إنها طريقة كسولة لكسب الرزق''. ويضيف: ''يمثل القطاع 10 في المائة فقط من الاقتصاد، لكنه يمتص 70 في المائة من النفقات الرأسمالية،'' ويجب على الحكومة إدارة فترة الإزهار على نحو أفضل عن طريق تخفيف معدل الاستثمار.
ويقول: ''في أستراليا، هناك كذبة كبيرة للغاية تدعم اقتصادنا، وهي أن لدينا كميات لا حصر لها من الموارد. وهذا غير صحيح''.
وهو يستشهد بمؤسسة الأبحاث الحكومية ''جيوساينسِز أستراليا''. تشير تقديرات المؤسسة إلى أن متوسط العمر المتوقع لاحتياطات خام الحديد المعروفة في البلاد انخفض من 100 إلى 70 سنة منذ 1998، في حين انخفض الفحم الأسود من 180 إلى 100 عام.
ولا تأخذ هذه الأرقام بعين الحسبان الرواسب غير المكتشفة، لكنها لا تحسب بشكل كامل أيضا معدل التوسع الجاري حاليا.
أستراليا، التي يؤهلها موقعها لخدمة آسيا سريعة النمو، ستصل يوما ما إلى قاع المحجر. وبحلول ذلك الوقت، ربما تكون هذه الثروة الهابطة من السماء قد تم تبديدها.
وكما يقول أحد المديرين التنفيذيين في مجال التعدين في مدينة بيرث: ''أشعر بأننا في لحظة حرجة. على ماذا تحصل البلاد مقابل هذه العائدات الهائلة؟ ومن الذي يحصل على ذلك؟ لقد أصبح هذا نقاشا سياسيا حساسا للغاية.''