في سورية .. أكاذيب اقتصادية
''أكبر وأكثر الأكاذيب هي تلك التي يكذب فيها الإنسان على نفسه. الكذب على الآخرين ليس سوى استثناء''.
فريدريك نيتشه فيلسوف ألماني
كما الأكاذيب السياسية وبالتأكيد الأمنية التي تبتكرها السلطة في سورية على مدار الساعة، هناك الأكاذيب الاقتصادية المنتشرة في هذا البلد منذ أن خضع لحكم أسرة الأسد قبل أكثر من أربعة عقود. ولأن الشعب السوري لم يصدقها بكل أنواعها (السياسية والأمنية والاقتصادية)، كان على الأسد الأب والابن، أن يفرضاها بالقوة في سياق منظومة القتل والبطش والقمع والتنكيل والاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري. حتى نصف الحقيقة - إن وجدت - عندهما هي في الحقيقة كذبة كبيرة جداً .. فكيف الحال بربعها أو عشرها؟! فبعد أن كانت الأكاذيب الاقتصادية، قبل الثورة الشعبية السلمية العارمة في سورية، تُطلَق على شكل إحصاءات وهمية وأرقام مجهولة وبيانات مريبة ودراسات مضحكة وبحوث بلا مصادر ومشروعات بلا هوية، بما في ذلك نسب التنمية والبطالة والاستثمار والعجز والتضخم والاقتراض والناتج المحلي ومصادر الدخل، أخذت الأكاذيب تُطلَق بعد الثورة في صيغ ردود على حقائق، لم يقدمها الثوار، بل وضعتها على الطاولة جهات دولية مستقلة رصينة، كانت قبل الثورة تحظى باحترام وتقدير كبيرين من قبل السلطة الحاكمة في سورية، فضلاً عن معلومات أكدتها الأحداث على الأرض، وهذه توفر أجود أنواع ''التأكيدات''، لأن الحدث - أي حدث - هو المصدر الأمثل والأقوى للحقائق، أياً كانت طبيعتها وهمومها ومرارتها.
كان من المناسب - وفق أكاذيب الأسد- أن يظهر ابن خاله رامي مخلوف الذي يسيطر على 60 في المائة من الاقتصاد السوري، ليقول إنه ''وهب'' نفسه لأعمال الخير، وإنه ابتعد عن الأعمال! وذلك في محاولة بائسة ويائسة تثير الغثيان، لإلباسه ثوب النزاهة. وكان من المناسب أيضاً أن يقوم عدد من رجال الأعمال الذين عُينوا من قبل الأسد بإطلاق التصريحات حول مناعة الاقتصاد الوطني من الانهيار، بينما يعرف العالم أجمع أنه لا يوجد في سورية اقتصاد وطني، بل هناك اقتصاد أُسري، يقوم على أسس ''التشبيح'' والارتزاق و''البلطجة''، ولا بأس من سلوكيات قُطاع الطرق. وكان من المناسب أيضاً أن يُطلق الأسد حاكم مصرفه المركزي ''السوري''، لينشر هنا وهناك تطمينات، لا يصدقها هو شخصياً، بأن الاحتياطي النقدي في المصرف لم يتضرر من جراء الثورة الشعبية العارمة، وأن الليرة متماسكة، وأنه ليست هناك مساعدات مالية إيرانية لإنقاذ الأسرة الحاكمة، وأن العراق - بحكومته الإيرانية - لم يرفع - مع سبق الإصرار والترصد- من وتيرة تعاونه الاقتصادي مع سورية في أعقاب الثورة لحماية الأسرة نفسها.
وتحدثت في مقالات سابقة عن المساعدات الإيرانية للأسد، التي بلغت 5.8 مليار دولار، وكيف يتم توزيعها وإنفاقها على مجموعة من أولويات السلطة، يمكن اختصارها بالتالي: شراء المزيد من الأسلحة لتمكين السلطة وعصاباتها من مواصلة عمليات قتل الشعب السوري. الإنفاق على عصابات المرتزقة - بما في ذلك عصابات حزب الله اللبناني (الإيراني) - تدعيم وحدات عسكرية معينة في أماكن معينة، تحسباً لسقوط الأسد في دمشق. تمويل قصير الأجل لدفع مرتبات العاملين في القطاعين الحكومي والعسكري، لتأخير اندلاع العصيان المدني الحتمي. تقديم رشا لمن يقبل من السوريين - –إن وجد أصلاً - الوقوف إلى جانب السلطة حتى النهاية، بما في ذلك رجال الأعمال المُعَنين، ورجال أعمال تقليديين، قبلوا بما فُرض عليهم من آليات اقتصاد التشبيح، خوفاً عن أنفسهم، ورضى بما خصص لهم من فتات الأموال المشينة.
وعلى الصعيد العراقي، ربما كان من المفيد أن أنقل تصريحاً وصلني من مكتب الدكتور رافع العيساوي، وزير المالية العراقي، يكذب فيه الأنباء التي تحدثت عن قيام بلاده بدفوعات مالية إلى سورية بلغت عشرة مليارات دولار. لكن التوضيح يحمل معه تأكيدات واضحة في مساندة حكم الأسد. وفيما يلي النص الكامل للتصريح - البيان دون أي تدخل من جانبي: ''ينفي مكتب الوزير الدكتور رافع العيساوي نفياً قاطعاً الأنباء التي وردت عن الدفوعات المالية التي قدرتها الأنباء بعشرة مليارات دولار لحكومة سورية الشقيقة. وإذ يؤكد الوزير حرص العراق على مساندة أشقائنا في سورية حكومة وشعباً، تعلن الوزارة عن الاتفاق مع وزارة المالية السورية على توحيد التعرفة الجمركية بين البلدين، وعلى مساندة مالية وقدرها ستة مليارات دولار سيتم تحويلها على دفعات ثلاث خلال مدة تسعة أشهر من تاريخ توقيع الاتفاقية بين البلدين يوم 27/07/2011. ولذا لزم التنويه إلى الالتزام بدقة المعلومات والاتصال بالمكتب الإعلامي للحصول على البيانات الصحيحة''. إن نظرة واحدة إلى تاريخ توقيع الاتفاقية، يمكن أن تمنح المشهد أقوى قدر من الوضوح!
الذي يبدو واضحاً أيضاً، أن المليارات الستة ''العراقية'' وتقريباً المليارات الستة ''الإيرانية''، لم تمنح الشعب السوري بارقة أمل اقتصادية، لأن توزيعها خارج نطاق الفوائد المنتظرة من مثل هذه المساعدات أو الدفوعات أو ''المسندة'' حسب تعبير بيان الوزير العراقي. وعلى هذا الأساس، يمكن أن نفهم تصريحات حاكم المصرف المركزي ''السوري'' المريعة الذي قال فيها: ''إن على السوريين شد الأحزمة بعد فرض عقوبات أوروبية وأمريكية قاسية على بلدهم، الذي أضعفته اقتصادياً. وإننا سنواجه صعوبات متزايدة بسبب العقوبات والأحداث، وبالتالي سيكون علينا شد الأحزمة''. يا إلهي، يطلب من السوريين، الذين يشدون الأحزمة منذ أكثر من أربعة عقود، أن يشدوها أكثر، بينما لم يعد في الحزام ثقب آخر لمزيد من الشد! وفي محاولة سمجة وغليظة لاجترار قصة مشكوك في صحتها تاريخياً، قال حاكم المصرف السوري:'' أقول عكس ما دعت إليه ماري إنطوانيت، عندما طلبت من الشعب أن يأكل البسكويت، إذا لم يكن لديه خبز. أعتقد أنه سيكون علينا التخلي عن تناول البسكويت لنأكل الخبز الأسمر''. وبعيداً عن استعراضه التاريخي الباهت، فقد تأخرت العقوبات الغربية على الأسد وأسرته وأعوانه، لأن الدول الكبرى، أرادت أن تفرض عقوبات ذكية على حاكم سورية غير الشرعي، وذلك بقطع الإمدادات المالية عنه (بما في ذلك حظر النفط الذي لا يدخل منذ 40 عاماً الخزانة العامة)، التي لا يستخدمها في تنمية البلاد، ورفاهية شعبه -وهذا أمر يستحيل أن يقوم به - بل تُنفَق في استكمال مواجهة نادرة، بين سلطة تستخدم الدبابات والمدرعات والطائرات والسفن الحربية والعصابات المستوردة والمحلية، وشعب أعزل إلا من كرامته وعزته. إن عمليات السرقة والنهب، هي التي ستضيع ما تبقى من ''خبز أسمر''، بعدما أضاعت مقدرات البلاد. إن المرحلة الطويلة المفجعة، التي شهدت – ولا تزال - مجموعة من الاقتصادات التخريبية، بدءاً من اقتصاد الفقر، واقتصاد التفقير وما دونه، واقتصاد التشبيح، هي التي استهلكت ثقوب الحزام، فلم تعد فيه مساحة لثقب آخر.
كان الأسد الأب، ''يستنجد'' بالعقوبات لتبرير الفساد والسرقة، وفعل الأسد الابن الشيء نفسه، مع فارق واحد، هو أن جرائم الأول كانت عديمة ''البث''، أما جرائم الثاني فقد استحوذت على كل وسائل البث.