إسرائيل والصين.. علاقات برسم المستقبل
لقد أصبح المجال العسكري والصفقات العسكرية هما القاعدة الصلبة التي شُيِّد فوقها صرح العلاقات الإسرائيلية - الصينية، وهنا لا بد من إلقاء نظرة سريعة على الخطوط العريضة لهذا التعاون في ضوء التقارير التي نشرتها الصحف الإسرائيلية والمجلات الغربية المختصة في الشؤون العسكرية والدفاعية، فقد قدمت إسرائيل - حسب تقرير لوكالة المخابرات الأمريكية - معلومات متقدمة للغاية إلى الصين عن أجهزة التوجيه بالصواريخ بصفة عامة وصاروخ "باتريوت" بصفة خاصة.
قام أخيرا رئيس هيئة أركان الجيش الصيني الجنرال شين بينفدي بزيارة تل أبيب، في زيارة غير معلنة في 14 آب (أغسطس) 2011 التقى خلالها كبار العسكريين وعقد عديدا من الاتفاقيات، وهي الزيارة الأولى لمسؤول صيني كبير، بعد زيارة قام بها قائد القوات البحرية الصينية لتل أبيب في أيار (مايو) الماضي، وهذه الزيارات تعكس وجود نوايا صينية إسرائيلية لتعزيز العلاقات رغم المعارضة الأمريكية، خاصة بعد تزويد تل أبيب بكين بوسائط التكنولوجيا العسكرية المتطورة، هذه الزيارات تأتي أيضا في ظل مرحلة التراجع الأمريكي، ومرحلة حساسة من العلاقات الصينية الأمريكية كشفتها زيارة أوباما الآسيوية أخيرا، فيما تؤكد المعلومات وجود تعاون علمي وتقني وثيق بين الصين وإسرائيل، جعل عديدا من الخبراء يؤكدون أن إسرائيل تخطط للمستقبل، وهي لا تتجاهل الحقائق الكونية بتراجع النفوذ الأمريكي.
على الرغم من أن مسيرة العلاقات بين الصين الشعبية وإسرائيل شهدت منعطفات خطيرة واختلافات عميقة عقودا طويلة تمتد من أوائل الخمسينيات حتى مطلع التسعينيات، إذ تباينت رؤية الدولتين وأسلوبهما ومواقفهما من عملية إقامة علاقاتهما الدبلوماسية؛ ولذلك اتسم الأداء النظري والعملي والدبلوماسي من جانب الدولتين بالتناقضات المتأرجحة بين "الإقدام والإحجام" و"الحماس والفتور"، وأصبح المشوار الصيني - الإسرائيلي الأكثر طولاً في تاريخ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدول .." وإيمانا منها بأهمية الصين الجديدة، وبالدور المؤثر الذي من المنتظر أن تلعبه في الشؤون الدولية، سارعت إسرائيل إلى الاعتراف بالصين رسميا في 19/1/1950، لتكون أول دولة شرق أوسطية تقدم على اعتراف كهذا، إلا أن الصين اكتفت برسالة شكر على هذا الاعتراف.
ومع نهاية الحقبة الماوية وسقوط الجناح اليساري في الحزب الشيوعي الصيني المتمثل في "عصابة الأربعة" عام 1976، وسيطرة الجناح الانفتاحي على قيادة الحزب والدولة ممثلا في الزعيم دنج شياو بنغ عام 1978، حيث اتسمت السياسة الصينية بالمرونة والانفتاح والتعاون مع القوى الغربية، وبدا على سياسة الصين الخارجية بوادر تحول سريع مع نهاية عقد السبعينيات وراحت تميل نحو مد جسور إعادة الثقة وإقامة العلاقات مع الدول التي كانت بالأمس تعتبرها من القوى الرجعية الموالية للإمبريالية الأمريكية كإسرائيل وجنوب كوريا وغيرهما، واتخذت مواقف "معتدلة" وانتهجت سياسة "مرنة" إزاء عديد من المشكلات الدولية بصفة عامة والصراع العربي - الإسرائيلي بصفة خاصة.
تفاقمت شدة الخلاف بين أكبر دولتين شيوعيتين في العالم: الاتحاد السوفياتي السابق والصين الشعبية، وكان من مصلحة الصين كبح توغل موسكو في شرق آسيا، ونظراً لأن إسرائيل تقف في وجه التوغل السوفياتي في الشرق الأوسط، فإن الصين وجدت نفسها تقف إلى جانب إسرائيل. شهدت السبعينيات أول اتصال رسمي معلن بين إسرائيل والصين، وكان ذلك عام 1978 عندما اجتمع مندوب الصين الدائم في الأمم المتحدة مع وكيل وزارة الخارجية الإسرائيلية، عديدا من جولات الحوار التي عقدت بين البلدين في هونج كونج أدت في نهاية المطاف إلى إنشاء مكتب تمثيلي لأكاديمية العلوم الإنسانية الإسرائيلية في بكين في شباط (فبراير) 1989، في الوقت الذي فتحت الصين فيه مكتبا سياحيا لها في تل أبيب يقوده دبلوماسي من وزارة الخارجية الصينية، وفي مطلع التسعينيات، ومع التغيرات المتسارعة التي عصفت بالأوضاع الإقليمية والدولية، التي أهمها تفكك المنظومة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفياتي، وانعقاد مؤتمر مدريد، وتحول النظام الدولي من ثنائي القطبية إلى أحاديها، وانطلاقا من مصالح وأهداف كل منهما تمت إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في كانون الثاني (يناير) 1992، وجاء ذلك نتيجة عديد من اللقاءات التي تمت بين كبار المسؤولين والمشاورات الماراثونية التي جرت بين الطرفين في ثمانينيات القرن الماضي.
على الصعيد الإسرائيلي عملت إسرائيل بكل ثقلها لفتح ثغرة في سور الصين العظيم والحصول على اعتراف من أكبر دولة بشرية في العالم والتأثير في سياستها تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي، خاصة كبح التعاون العسكري الصيني - العربي؛ الحصول على حيز أكبر في السوق الصينية؛ خاصة في مجال التعاون العسكري والتكنولوجي. والأهم هو ما بدأت تلمسه إسرائيل من فتور في حرارة الدعم الغربي لسياستها، وسعي واشنطن إلى تحديد خطوط حمراء لإسرائيل ينبغي ألا تتعداها، وعليه تعمل إسرائيل على إعادة تعريف علاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن في ضوء المعطيات الدولية والإقليمية الجديدة، وإيمانها المطلق بأن الصين هي المنافس الأبرز للولايات المتحدة لتصبح القوة الأعظم في العالم.
أما على الصعيد الصيني فقد كان الهدف الاستفادة من الخبرة الإسرائيلية في مجال التكنولوجيا المتطورة التي لا تستطيع الحصول عليها من أمريكا والغرب، إلى جانب الاتصالات والزراعة ونظم الري الحديثة، حيث تعتبر إسرائيل من أكثر الدول تقدما في هذه المجالات، استخدام النفوذ الإسرائيلي في الدول الغربية، ولا سيما في الولايات المتحدة والحصول على تقنيات عسكرية أمريكية غربية متقدمة من إسرائيل، في الوقت الذي تفرض فيه أمريكا والغرب حظر نقل الأسلحة للصين التي تسعى إلى تحديث قواتها العسكرية.
وخلال السنوات الماضية من عمر العلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية - الصينية، أصبحت المشاورات السياسية والاجتماعات السنوية بين وزيري خارجية البلدين منتظمة ومبرمجة، وتم التوقيع على عديد من الاتفاقيات التعاونية، ففي تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، اعترفت إسرائيل رسميا بمكانة الصين كسوق اقتصادية، وفي كانون الثاني (يناير) 2007، وقع الجانبان خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت للصين اتفاقية بين الإدارة الوطنية الصينية للجودة والإشراف والتفتيش والحجر الصحيGENERAL ADMINISTRATION OF QUALITY SAPENVISION , INSPECTION AND QURANTINE 0F THE P.R.C وبين وزارة الزراعة والتنمية الريفية الإسرائيلية بشأن متطلبات الحجر الصحي عند تصدير الحمضيات الإسرائيلية للصين، ومذكرة التفاهم بين حكومة بلدية بكين ووزارة الصناعة والتجارة والعمل الإسرائيلية حول التعاون في الشؤون المائية، وبلغ إجمالي حجم التبادل التجاري الإسرائيلي - الصيني 3.876 مليار دولار أمريكي عام 2006، احتلت الصادرات الصينية منها 2.561 مليار دولار أمريكي، والواردات 1.314 مليار دولار أمريكي .. بينما عام 2007 بلغ إجمالي حجم التبادل التجاري بين البلدين 5.306 مليار دولار أمريكي، بلغت الصادرات الصينية منها 3.655 مليار دولار أمريكي والواردات 1.651 مليار دولار أمريكي.
وفي عام 2007 وقعا "خطة تنفيذ الاتفاقية الثقافية للفترة 2007 – 2010 بين حكومة جمهورية الصين الشعبية وحكومة دولة إسرائيل" .. والآن تتم المحافظة على 100 طالب إسرائيلي وافد إلى الصين سنويا، و100 طالب صيني في إسرائيل .. ففي أيار (مايو) 2007 تم افتتاح "يوم الثقافة الصينية في إسرائيل، وتمت إقامة معهد كونفوشيوس في جامعة تل أبيب ..".
وبلغ حجم التجارة الصينية - الإسرائيلية 7.65 مليار دولار أمريكي عام 2010، أي نحو 150 ضعف الرقم عام 1992 عندما أقامت الدولتان العلاقات الدبلوماسية بينهما.
لقد أصبح المجال العسكري والصفقات العسكرية هما القاعدة الصلبة التي شُيِّد فوقها صرح العلاقات الإسرائيلية - الصينية، وهنا لا بد من إلقاء نظرة سريعة على الخطوط العريضة لهذا التعاون في ضوء التقارير التي نشرتها الصحف الإسرائيلية والمجلات الغربية المختصة في الشؤون العسكرية والدفاعية، فقد قدمت إسرائيل - حسب تقرير لوكالة المخابرات الأمريكية - معلومات متقدمة للغاية إلى الصين عن أجهزة التوجيه بالصواريخ بصفة عامة وصاروخ "باتريوت" بصفة خاصة.
وبحسب وكالة الأنباء الصينية "شينخوا" قررت الحكومة الإسرائيلية أخيرا إنفاق نحو 28 مليون دولار أمريكي من أجل مساعدة شركات التصدير الإسرائيلية على تعزيز علاقاتها التجارية مع كل من الصين والهند. يذكر أن أوروبا والولايات المتحدة كانتا من قبل أكبر سوقين للصادرات الإسرائيلية. لكن مع كفاح هاتين السوقين للتعافي من الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008، حول عديد من الشركات الإسرائيلية اهتمامها تجاه الشرق من أجل استمرار أعمالها. وخلال زيارة قام بها وزير التجارة الصيني تشن ده مينج أخيرا لإسرائيل، قال: "إن الصين ترى فرصة كبرى في تعاونها مع إسرائيل"، مضيفا "إن مجالات التعاون توسعت بشكل كبير من الزراعة إلى الطاقة المتجددة، والطب البيولوجي، والإلكترونيات، والاتصالات، وتحلية مياه البحر".
وطبيعة التجارة الصينية - الإسرائيلية متبادلة المنفعة، حيث تسعى الشركات الصينية إلى شراء التكنولوجيات الإسرائيلية من أجل مواصلة تنميتها الاقتصادية السريعة، فيما تحاول الشركات الإسرائيلية دخول السوق المحلية الصينية الشاسعة. ويشير إيلان ماور، المدير الإداري لشركة شنج - بي دي أو زيف هافت، الرائدة في تنمية الأعمال، وهي شركة استثمارية، وعضو المجلس الاستشاري للمركز الإسرائيلي - الآسيوي، إلى أن الشركات الصينية والإسرائيلية تقوم بأنشطة في مجموعة واسعة من المجالات. والشركات الصينية تأتي إلى إسرائيل من أجل أشياء قليلة، لكن قبل كل شيء، للشراء"، مضيفا "أن إسرائيل تملك منتجات مفيدة في تحسين الإنتاج الزراعي والصناعي. وتمتلك إسرائيل تكنولوجيا متقدمة للغاية في مختلف القطاعات، فيما تحقق الصين نموا سريعا"، وقال: "ومن ثم تحتاج الصين إلى عديد من التكنولوجيات، فيما تعد إسرائيل مصدرا مهما للتكنولوجيات الحديثة".
ويتفق المحللون الإسرائيليون على أن الصين مهتمة أيضا بالتكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية. بيد أنه نظرا لأن كثيرا من هذه التكنولوجيا تم تطويرها إما بالتعاون مع الشركات الأمريكية وإما بتمويل من الولايات المتحدة، فإن إسرائيل حريصة إلى حد كبير على ألا تخالف صادراتها في هذا المجال التفاهمات مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بالصادرات العسكرية للصين. وبحسب الدكتور يوارم أيفرون الأستاذ في قسم الدراسات الآسيوية في جامعة حيفا أن إسرائيل "صارمة" للغاية بالنسبة لصادرات الدفاع للصين، و"لن تجرؤ على تعريض علاقاتها بالولايات المتحدة للخطر".
أخيرا فإن مستقبل العلاقات بين إسرائيل والصين يشكل تحديا استراتيجيا وتطورا مهما، خصوصا في ظل تراجع الدور الأمريكي. العلاقات الصينية - الإسرائيلية رغم أنها مرشحة لمزيد من النمو خلال الفترة المقبلة لأسباب اقتصادية وأمنية تخص البلدين، فإن هذه العلاقات أيضا معرضة للتراجع والانتكاس، بسبب تشابكها وتأثرها بالعلاقات الوثيقة بين واشنطن وتل أبيب، فإذا كانت إسرائيل بحاجة إلى الصين، فإنها أكثر احتياجا إلى الولايات المتحدة، التي تعتمد هي عليها بشدة".
لكن يبقى أن المستقبل يحمل الكثير بالنسبة للعلاقة بين البلدين.