ينبغي أن نصغي لما تخبرنا به الأسواق
ما الذي ينبغي عمله؟ اصغوا إلى الأسواق. إنها تقول: اقترضوا وأنفقوا، من فضلكم. لكن أولئك الذين يدّعون أنهم يؤمنون بسحر الأسواق عازمون أكثر من غيرهم على تجاهل هذه الصرخة. إنهم يصرون على أن الأموال تتساقط من السماء.
يتوقع بنك HSBC أن تنمو اقتصادات البلدان ذات الدخل العالي الآن بمعدل 1.3 في المائة هذا العام، وبمعدل 1.6 في المائة عام 2012. وأسواق الأسهم متشائمة بالقدر نفسه على الأقل. فقد أعطت سندات الخزينة الأمريكية لعشرة أعوام عائدا بنسبة 1.98 في المائة يوم الإثنين، هو الأقل منذ 60 عاماً، وبلغ عائد السندات الألمانية 1.85 في المائة، ويمكن حتى للمملكة المتحدة أن تقترض بفائدة نسبتها 2.5 في المائة. هذه العوائد تتراجع بسرعة باتجاه مستويات العوائد اليابانية. وعلى نحو لا يصدق، كانت العوائد على السندات المرتبطة بالمؤشرات قريبة من الصفر في الولايات المتحدة، و0.12 في المائة في ألمانيا، و0.27 في المائة في المملكة المتحدة.
#2#
هل الأسواق مجنونة؟ نعم، يصر الناس الحكماء. فالخطر الأكبر لا يكمن في التراجع، كما تخشى الأسواق، بل في العجز عن السداد. لكن إذا أخطأت الأسواق في أسعار سندات هذه الحكومات لهذه الدرجة، فلماذا ينبغي على المرء أن يأخذها على محمل الجد؟
إن العجوزات المالية الهائلة التي نشهدها اليوم، خاصة في البلدان التي حدثت فيها أزمات مالية ضخمة، ليست نتاج التحفيز الكينزي المتعمد. فحتى في الولايات المتحدة بلغ التحفيز الذي أسيء توجيهه والذي لم يكن كافياً، أقل من 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أو على الأكثر خُمس العجوزات الفعلية في ثلاثة أعوام. وكان الأخير نتاج الأزمة: سمحت الحكومات للعجوزات بالارتفاع، بينما توخي القطاع الخاص أن يقتصد بشدة.
ومنع حدوث هذا كان سيؤدي إلى كارثة. وكما قال ريتشارد كو، من دائرة البحوث في بنك نومورا، العجوزات المالية تساعد القطاع الخاص على خفض ديونه. وهذا بالضبط ما يحدث في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ففي الولايات المتحدة انتقل القطاع الأسري إلى الفائض المالي بعدما بدأت أسعار المنازل بالانخفاض، في حين انتقل قطاع الأعمال إلى الفائض أثناء الأزمة. إن الأجانب موردون مواظبون لرأس المال وقد جعل هذا الحكومة مقترض الملاذ الأخير. ولا تختلف الصورة في المملكة المتحدة كثيراً، باستثناء أن قطاع الأعمال ظل في فائض مستمر.
وطالما أدار القطاعان الخاص والأجنبي فوائض ضخمة (بالرغم من التدني الشديد لمعدلات الفائدة)، فيجب على بعض الحكومات أن تجد الاقتراض سهلاً. والسؤال الوحيد هو: أية حكومات؟ يبدو أن المستثمرين يختارون ملاذاً آمناً واحداً لكل منطقة عملة: الحكومة الفيدرالية الأمريكية في منطقة الدولار، وحكومة المملكة المتحدة في منطقة الاسترليني، والحكومة الألمانية في منطقة اليورو. في هذه الأثناء، وبين مناطق العملات، يحدث التعديل عن طريق أسعار الصرف أكثر بكثير منه عبر أسعار الفائدة على ديون الملاذات الآمنة.
وكلما كان حجم فوائد القطاعات الخاصة أكبر (وبالتالي كلما كانت العجوزات المالية المقابلة أكبر) تمكنت الأولى من سداد ديونها بسرعة أكبر. من هنا، فإن العجوزات المالية تساعد، في ظل انكماش الميزانية العمومية، ليس لأنها تعيد الاقتصاد إلى عافيته بسرعة، بل لأنها تعزز عملية الشفاء البطيئة لدرجة الإيلام.
وأحد الاعتراضات التي أوردها البروفيسور كنيث روجوف، الأستاذ في جامعة هارفارد، في ''فاينانشيال تايمز'' في آب (أغسطس) الماضي، أن الناس تخشى ارتفاع الضرائب في المستقبل ولذلك تدخر أكثر. إنني غير مقتنع بذلك، فقد انخفضت المدخرات الأسرية في اليابان. لكن هناك جواب جيد: استخدم الأموال الرخيصة لجمع ثروة في المستقبل، وهكذا فإنك تحسن المركز المالي في المدى الطويل. من غير المتصور ألا تكون الحكومات التي تتمتع بجدارة ائتمانية، قادرة على كسب عائد يفوق التكاليف التافهة التي تدفعها على الاقتراض، وذلك عبر الاستثمار في الموجودات العينية والبشرية بمفردها، أو بالاشتراك مع القطاع الخاص. ومن غير المتصور بالقدر نفسه أن عمليات الاقتراض المصممة للتعجيل بإجراء خفض في فائض العرض على الطلب على السندات التي يصدرها القطاع الخاص، وإعادة رسملة البنوك والحؤول دون حدوث انهيار في الإنفاق، لا يمكنها أن تكسب عائداً يفوق التكاليف بكثير.
ويتمثل اعتراض آخر جدير بالملاحظة – مؤسس له في الكتاب المهم الذي ألفه روجوف وكارمن راينهارت، من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن – في أن النمو يتباطأ بشكل حاد عندما يتجاوز الدين العام 90 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، لكن هذه علاقة إحصائية وليست قانوناً حديدياً. ففي عام 1815 كان الدين العام المترتب على المملكة المتحدة يبلغ 260 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ما الذي حصل بعد ذلك؟ الثورة الصناعية.
إن ما يهم هو الكيفية التي يُستخدَم بها الاقتراض. وزيادة على ذلك، ينبغي لنا في هذه الحالة أن نفكر في البدائل. فإذا ما أريد أن يتم خفض العجز المالي بشكل حاد، فيجب أن تنخفض الفوائض في بقية الاقتصاد أيضاً. والسؤال هو كيف يكون ذلك متماشياً مع الخفض السريع للدين والتوسع في الإنفاق. في رأيي أن هذا غير ممكن. والنتيجة الأكثر احتمالاً في الظروف الحالية، هي العجز الجماعي عن السداد، وانكماش الأرباح، وتضرر البنوك، وتراجع جديد. هذا ما سيحدث إذا توقف احتواء الكساد المحتوى حالياً.
إن الخطر وشيك بشكل خاص في منطقة اليورو. ويمكن قول الكثير رداً على عمود ''فاينانشيال تايمز'' بقلم وزير مالية ألمانيا فولفجانج شويبل. لكن تبرز نقطتان هنا. الأولى، من المستحيل على حكومات البلدان ذات العجز وقطاعاتها الخاصة أن تسدد - مقابل أن تعجز عن سداد ديونها - من دون أن تدير عجوزات خارجية. ما الذي تقوم به ألمانيا لاستيعاب هذا التحول الخارجي؟ لا شيء. الأخرى، داخل اتحاد نقدي، فإن بلداً كبيراً لديه فائض هيكلي في الحساب الجاري شبه ملزم بتمويل عجوزات نظرائه. وإذا رفض قطاعه الخاص أن يفعل ذلك، فيجب على القطاع العام أن يفعل. وبغير ذلك، فإن شركاءه سيعجزون عن السداد واقتصاداتهم ستنهار، الأمر الذي يلحق الضرر بالبلد المصدّر. وفي الوقت الحالي يقوم البنك المركزي الأوروبي بتقديم كثير من التمويل اللازم. فهل يريد منه شويبل فعلاً أن يتوقف عن ذلك؟
على عكس الحكمة التقليدية، لم يتم استنفاد السياسة المالية. هذا ما قالته كرستين لاجارد، المديرة الإدارية لصندوق النقد الدولي، في جاكسون هول الشهر الماضي. وتتمثل الحاجة في إقران اقتراض الأموال الرخيصة الآن مع الاقتطاعات في الإنفاق في المدى الطويل. والحاجة ليست أقل لأن تقوم البلدان ذات الفائض ولديها القدرة على زيادة الطلب بعمل ذلك.
لقد أخذ يتضح أكثر على الدوام بأن العالم المتقدم يرتكب الخطأ الذي ارتكبته اليابان، المتمثل في الاقتصاد أثناء تراجع الميزانيات العمومية، ولكن على نطاق أخطر – وأكثر عالمية. إن الحكمة التقليدية تقول إن الاقتصاد المالي يؤدي إلى عودة النشاط إلى الاستثمار والنمو. وهناك حكمة بديلة تقول إن المعاناة جيدة. الأولى غبية. والثانية غير أخلاقية.
إن إعادة النظر في السياسة المالية ليست هي كل المطلوب. السياسة النقدية ما زال لها دور مهم. وكذلك الأمر بالنسبة للإصلاحات المتعلقة بجانب العرض، وبصورة خاصة إحداث تغييرات ضريبية تشجع الاستثمار أيضاً. وكذلك، فإن ما تفعله إعادة التوازن العالمية لا يقل شأنا عن ذلك. لكن الآن في عالم يُفْرط في الادخار، فإن آخر شيء يحتاجه هو أن تقلل الحكومات ذات الجدارة الائتمانية من عمليات الاقتراض التي تقوم بها. هذا بالضبط ما تقوله الأسواق بصوت عال. فاصغوا لها.