لا أسمع الأسواق .. لكنني أشتم رائحة الخوف
قبلتُ دعوة مارتن وولف التي طلب فيها منا ''الاستماع لما تقوله لنا أسواق السندات''، التي وردت في ''فاينانشيال تايمز'' بتاريخ السابع من أيلول (سبتمبر). وللأسف لم أتمكن من التقاط الصوت الذي يدعو إلى ''الاقتراض والإنفاق من فضلكم''، وهو الصوت الذي يسمعه وولف بكل وضوح. أخذتُ نفساً عميقاً وأدركتُ على الفور حقيقة ما يجري. صحيح أنني لم أتمكن من سماع أي شيء، لكنني تمكنتُ بالتأكيد من أن أشتم رائحة ما. لقد استطعتُ أن أشتم رائحة الخوف.
عوائد السندات متدنية. والسبب في ذلك ليس لأن المستثمرين يريدون من الحكومات أن تقترض مبالغ أكبر من ذي قبل. التراجع في عوائد السندات يعود إلى السبب نفسه الذي يجعل أسعار الذهب مرتفعة، ويجعل الين الياباني قوياً للغاية، ويجعل البنك المركزي السويسري يَجْهَد للسيطرة على عملته، ويجعل الأسهم في حالة تراجع. ما يحاول المستثمرون القيام به الآن هو العثور على جيوب للسلامة في عالم يبدو فيه أن النظام المالي يتهاوى بصورة بطيئة. وهذه مشكلة تتعلق بالقدرة على الشم، وليس بالقدرة على السمع.
العوائد المتدنية على السندات الحكومية، بحد ذاتها، لا تستطيع تبرير المعدلات العالية من الاقتراض الحكومي. في عام 2005 تراجعت العوائد على السندات الإيطالية والإسبانية لأجل عشر سنوات إلى نسبة تزيد قليلاً على 3 في المائة. وكانت العوائد على السندات اليونانية أعلى بنسبة يسيرة فقط. في ذلك الحين كان الدائنون في غاية السعادة لإقراض بلدان أوروبا الجنوبية، ثم أخذوا في التراجع عن الإقراض بصورة مفاجئة. فهل كان ينبغي على تلك البلدان زيادة الاقتراض لا لشيء إلا لأن الدائنين شعروا، خلال لحظة عابرة زائلة، بالسخاء والكرم؟
إن مصدر الأزمة المالية لا يعود فقط إلى سوء التقدير من قبل المَدينين، وإنما يعود كذلك إلى أخطاء الدائنين. والفريقان يدركان الآن أنه لا يوجد طريق سهل للخروج. من السهل المجادلة بأن برامج التحفيز المقدمة حتى الآن لم تكن كبيرة بما فيه الكفاية، أو أنها كانت موجهة نحو الوجهة غير الصحيحة. والتقييم الأقرب إلى الواقعية يقول إن السياسات التي اتُّبِعت لم يكن بمقدورها إعطاء النتائج المستهدَفة، أو المتوقعة.
يأتي الدليل على ذلك من رد فعل الاقتصاديين والمستثمرين على الإعلان الذي صدر في السنة الماضية عن الاحتياطي الفيدرالي بخصوص الجولة الثانية من التسهيل الكمي وبخصوص طريقة تنفيذ تلك الجولة. في البداية قام الاقتصاديون بتعديل توقعاتهم حول النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة لعام 2011. واندفعت أسواق الأسهم. لكن تبين أن هذا التفاؤل كان قصير العمر. ونجد الآن أن إجماع المحللين بخصوص النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة لعام 2011 أدنى من توقعاتهم قبل تبني الجولة الثانية من التسهيل الكمي. أما المستثمرون فهم يلعقون جراحهم الآن بعد أن تحولوا قبل الأوان باتجاه الأسهم دون أن يفهموا طبيعة الأزمة.
ترتبط المشكلة الكامنة بإجمالي المطالبات ضمن النظام المالي والمترتبة على الاقتصادات التي كان أداؤها سيئاً بالقياس إلى التوقعات السابقة – المغرقة في التفاؤل. ولا يزال الناتج المحلي الإجمالي في البلدان المتقدمة أدنى مما كان عليه عند بداية عام 2008، أي قبل أن تستفحل الأزمة وتظهر آثارها القوية. ويبدو بصورة متزايدة الآن وكأن التقديرات السابقة بخصوص النمو الاقتصادي ''في الأجل الطويل'' كان مبالغاً فيها بصورة خطيرة. قبل الأزمة كان الاقتصاديون يرون بصورة روتينية أن بمقدور الاقتصاد الأمريكي التوسع بنسبة سنوية مقدارها 3 في المائة إلى الأبد. مع ذلك، وخلال مسار الدورة الاقتصادية التي تزامنت مع رئاسة جورج بوش، سجلت الولايات المتحدة نمواً اقتصادياً بمعدل 2 في المائة فقط، على الرغم من ''المساعدة'' التي جاءت عن طريق طفرة الإسكان، والائتمان المفرط في التراخي، والحيل المالية في جميع أشكالها. وربما يكون الآن معدل النمو في الأجل الطويل أدنى حتى من 2 في المائة.
إن إجمالي المُطالبات المالية في الوقت الحاضر كبير فوق الحد إلى درجة لا يحتمله الواقع الاقتصادي الجديد. في هذا العالم الذي يتسم بالجمود الاقتصادي الدائم، لا بد أن يقبل بالخسائر شخص ما، في مكان ما. فهل ستترتب هذه الخسائر على دافعي الضرائب، أم على الذين يتلقون الخدمات العامة، أم على مستثمري الأسهم، أم على حاملي السندات، أم على المَدينين المحليين، أم على الدائنين الأجانب؟ في نهاية المطاف ستكون هذه قضية يتعين على السياسيين حلها. مع ذلك، ومع وجود هذه الفجوة الهائلة بين الجمهوريين والديمقراطيين، وبين ألمانيا واليونان، وبوجود هوة متوسعة بين المَدينين الأمريكيين والدائنين الصينيين، فإن أي حل يبدو صعب المنال. في هذا العالم الذي تسوده مشاعر اللبس العميقة، من الطبيعي أن يهرب المستثمرون باتجاه السلامة. وفي الوقت الذي يفعلون فيه ذلك تتراجع العوائد على السندات الحكومية.
بالتالي، التدني في عوائد السندات الحكومية ليس علامة على أنه ينبغي للحكومات أن تزيد من اقتراضها. وإنما هي إشارة إلى فقدان الإيمان بالنظام المالي بأسره. ما يحاول المستثمرون فعله الآن هو الخروج بصيغة لتأمين أفضل حماية لمطالبهم المالية في الوقت الذي تكون فيه المطالب المالية بصورة عامة هشة إلى درجة لم نعهدها منذ الثلاثينيات. وما لم يعمل التحفيز من المالية العامة فعليا على إعادة الاقتصادات إلى الظروف التي كانت سائدة قبل الأزمة – وهو أمر يبدو الآن بعيد الاحتمال تماماً – لا بد أن يقع اقتسام العبء بشكل أو بآخر. وشراء سندات الخزانة الأمريكية، أو سندات الخزانة الألمانية، أو البريطانية، يعطي نوعاً من التأمين ضد هذا الخطر. لكن الخطر – والخوف – لن يختفي خلال فترة قريبة.
الكاتب كبير الاقتصاديين لدى بنك HSBC ومؤلف كتاب ''فقدان السيطرة: التهديدات الناشئة لرفاهية الغرب'' Losing Control: The Emerging Threats to Western Prosperity