الحكومة تريد خفض أسعار العقار.. ولكن!
تزايدت التقارير الصحافية التي تتحدث عن رغبة جهات حكومية في تأجيل إقرار أنظمة الرهن العقاري، ويدعمها بعض التقارير التي تتحدث عن رغبة البنوك في انخفاض أسعار الأراضي، ناهيك عن مقالات متعددة تحاول تشكيل رأي عام حول ضرورة خفض أسعار الأراضي. ويعيب التقارير الصحافية عدم تسميتها الأشياء بأسمائها، فهي تشير إلى مصرفي مطلع أو مسؤول حكومي وخلافه. والمطلع والمتابع للقطاع العقاري بعين المحايد يدرك أن مشكلة القطاع العقاري هيكلية بالدرجة الأولى، فهو يتسم بعدم التنظيم والعشوائية وتعدد الجهات المشرفة عليه، وخلل كبير بين العرض والطلب، وتعدد استخداماته بين سكني وتجاري وصناعي، ومعدلات دخل لا تواكب مستويات أسعار العقار الحالية، وانخفاض معدلات التمويل، وشبه غياب لشركات التطوير وارتفاع نسبة الأراضي البيضاء، وصعوبة إيصال الخدمات وإصدار التراخيص فيما يسمى النطاق العمراني، وهناك مشكلات أخرى يصعب حصرها هنا.
إن ما تقوم به الحكومة الآن هو محاولة حل كل خلل على حدة، فمن أجل سد الفجوة بين العرض والطلب رفعت الحكومة قيمة القسط العقاري، وضخت مبلغ 250 مليار ريال لوزارة الإسكان، وساندت بقوة توفير الأراضي لبناء 500 ألف وحدة سكنية في خلال خمس سنوات. لكنها لم تصدر أي أنظمة أو تشريعات تعالج مسألة انخفاض التمويل، أو ما يحفز إنشاء شركات تطوير عقاري، أو ما يعالج مشكلات الأراضي البيضاء، وتباطؤ الإجراءات الحكومية، وتعدد إشراف الجهات الحكومية. وفي ضوء ذلك يصعب الحديث عن التكهن أو التوقع باتجاه أسعار العقار، أو قدرة الحكومة على خفض الأسعار. فأسعار العقار لا يمكن أن تهبط بمجرد كلام حكومي أو بنكي، أو بأمنيات ورغبات البعض. فما دامت تلك الاختلالات يصعب التكهن والاستشراف لقطاع العقار. وأرجو ألا يفهم من كلامي هذا أنني مع ارتفاع الأسعار، فانخفاض الأسعار لمصلحة الجميع التاجر والفرد.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: من له مصلحة إذاً في تأجيل إصدار منظومة الرهن العقاري التي ستسهم بدرجة كبيرة في علاج كثير من تلك الاختلالات؟ خصوصا في مجال التمويل والتطوير العقاري، التي بدورها ستشجع المستثمرين على إعمار الأراضي البيضاء.
قد يقول قائل إن إصدار أنظمة الرهن العقاري قد تؤدي إلى مزيد من ارتفاع الأسعار، وهو الذي قد يعرض البنوك لمخاطرة ارتفاع أسعار العقار، وبالتالي عزوفها عن تقديم التمويل، وتساندها في هذا التوجه مؤسسة النقد العربي السعودي ''ساما'' لحماية البنوك من فقاعة قد تحدث من جراء ارتفاع أسعار العقار. ورغم تفهمي مثل هذا الاحتمال، فإن إصدار أنظمة الرهن العقاري لا يعني بالضرورة اندفاع البنوك وشركات التمويل على الإقراض، وفي الوقت نفسه، لا يعني اندفاع الناس للطلب على التمويل، فتجارب دول أخرى مثل مصر لم تشهد اندفاعاً بالصورة التي قد يتخيلها البعض، بل إن شركات التمويل العقاري اتجهت إلى تمويل الشركات. كما أن بعض شركات التمويل العقاري في المملكة ركزت على تمويل شركات التطوير بدلا من الأفراد في الوقت الحالي لغياب التشريعات الكافية.
لذا فإن المشكلة التي يتخوف منها البعض يجب ألا تثنينا عن المضي قدما في إصدار الأنظمة والتشريعات. فكل تأخير في صدور أنظمة وتشريعات لحل مشكلات قائمة - حتى لو كانت خارج القطاع العقاري - بحجة عدم ملاءمة التوقيت أمر لم يعد مقبولا. لأن ذلك يزيد من تراكم المشكلات وجعل معالجتها مستقبلاً أكثر تعقيدا. وفي اعتقادي أن صدور أنظمة الرهن العقاري في الوقت الراهن مواتٍ لأبعد درجة لأسباب عدة، منها: مساندة قرارات الحكومة الأخيرة بشأن القطاع العقاري، انخفاض أسعار الفائدة إلى مستويات تاريخية، ما يسهم في انخفاض تكاليف التمويل، توافر سيولة عالية تشجع على مزيد من إنشاء شركات التمويل والتطوير العقاري، حماية الراهن والمرتهن وخفض مخاطر التعثر، وتشجيع دخول لاعبين آخرين يسهمون في توازن السوق العقارية مثل المثمنين المحترفين والمطورين الملتزمين بمعايير ومواصفات كود البناء السعودي، وكثير من الإيجابيات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى جعل السوق العقارية أكثر تنظيما، وأسهل استشرافا، وأقل مخاطرة.