يوم كانت لحوم الأضاحي خزناً استراتيجياً

من المؤكد أن جيل اليوم، لم يكن يعرف على أي نحو كان آباؤهم وأجدادهم يتعاملون مع لحوم الأضاحي، خصوصا وهم بالكاد يأكلون اللحم فيما كان يتلهف عليها أهلهم هبرة أو شحمة، خصوصاً أن جيل اليوم باتوا زبائن دائمين للوجبات السريعة من الهامبورجر والسجق وبقية الأصناف التي لا تغري أهلهم بقدر ما صارت مشكلة في عادة تغذية غير صحية لفلذات أكبادهم.
حكايات طريفة مشابهة بقدر من التنهدات، يحكيها الآباء عن الحفاوة التي تصاحب حلول عيد الأضحى المبارك، من حيث هو مناسبة دينية مقدسة بالدرجة الأولى ومن حيث ما كان يعنيه لهم من توافر كميات كبيرة من اللحم باعتباره حدثاً فريداً، فقد كانت العائلات والأسر ضنينة بما يصل إلى بيوتها من اللحم يهديها إليهم جارٌ أو قريبٌ مثلما يفعلون هم الشيء ذاته، ولذلك كانوا لا يعمدون إلى السرعة في استهلاكها، وإنما يتبعون معها سياسة طويلة النفس، حتى إنه يمكن وصفها بموقف استراتيجي يستهدف أن تكون كميات اللحم التي جمعتها الأسرة خزناً استراتيجياً يتمونون منه بالتقسيط بكمية قليلة ليكفيهم العام كله، بل كان زاداً نوعياً لا ينافسه زادٌ آخر فقد كانت إمكانية الحصول على اللحم بالشراء نادرة الحدوث لضيق ذات اليد في تلك الأيام، ولقلة ما يتم ذبحه أيضاً، وإن كانت بعض المناسبات قد تجود به على حين غرة إما من لحم عقيقة (تميمة) لمولود جديد أو لزفاف تم أو ''عزومة'' لقريب جاء من سفر.. إلخ، ففي مثل هذه المناسبات تمتد الأيدي إلى قطع اللحم بنهم لا يقاوم!!
أما كيف كان لحم الأضاحي زاداً، أو كما أشرنا مخزوناً استراتيجياً، فلأن الأهل كانوا يعنون بحفظه بطريقة تقليدية (لكنها سارية المفعول حتى اليوم في العالم كله بأشكال أخرى)، حيث لا وجود للثلاجات حينذاك، وهم إما يقومون بطبخ اللحم مع رش قليل من الملح بعد الطبخ ثم نشره على الخصف والحصير أو نظمه في خيوط وتعليقه على الأوتاد والعوارض الخشبية وهم يسمون هذه النوعية ''حميس'' أو يجعلونه شرائح رهيفة ويرشون عليه كثيراً من الملح وهو نيئ، (غير مطبوخ) ويعلقونه أيضا لكي يؤدي الملح وظيفته بتجفيفه من مائه ويسمون هذه النوعية ''قديد'' أو ''قفر''.. والطريقتان كانتا سائدتين للحفظ وهو ما أصبح يُعرف اليوم بـ ''التصبير''، ''أي الحفظ بالتجفيف بالملح لكيلا يتسمّم اللحم ولا يفسد، وهم لكي يعيدوا طهيه يعمدون إلى نقعه في الماء لتخليصه أولاً من كميات الملح ثم يطبخ''.
ومع ذلك، فإن ما يطبخ من هذا اللحم لا يطبخ إلا بمقدار محدود جدا، وغالباً للمناسبات أو بعد عدد من الأيام قد تتجاوز الأسابيع، لأن المطلوب أن يظل رصيد الأسرة من هذا المخزون الاستراتيجي من اللحم موجوداً طوال العام.. أي من عيد الأضحى إلى عيد الأضحى.
في الغالب يحتفظ الأهل بـ ''الحميس'' و''القفر ـ أو القديد'' في الغرف العليا للمنزل يسمون واحدتها ''الروشن'' لتكون بمنأى عن امتداد أيدي الأطفال إليها أو من قد تحدثه نفسه باختلاس قطعة من اللحم، فالحركة في اتجاه الطابق العلوي ستكون مفضوحة، حيث لا شيء في الغالب يستدعي ذلك، أما السبب الأساسي فهو صحي ففي وضع اللحم في الرواشن إمكانية أكبر لاستقبال الهواء النقي وحمايتها من حشرات الأرض، فعلوها أفضل تهوية من الغرف السفلية وأسلم لها من الهوام، كما أن ''الروشن'' يقفل بالضبة والمفتاح لكيلا يتم هدر هذا المخزون الاستراتيجي من اللحم!!
التحولات التي شهدتها بلادنا- بحمد الله- مع التطوير والتنمية جعلت هذه الحكايات عن حفظ لحم أضاحي الأمس شيئاً غير قابل للتصديق من جيل اليوم الذين يرون محال الجزارة والأسواق تعرض خيارات لكميات كبيرة متنوعة من اللحوم محفوظة طازجة في البرّادات، مثلما أن ثلاجات البيوت عامرة- بحمد الله- بما تحتاج إليه العائلة لأسابيع أو أكثر من شهر، ومع ذلك، فجيل اليوم يفضل عليها لحوم الوجبات السريعة.. فيما لا تفضل الأسر اليوم الاحتفاظ بلحوم الأضاحي إلا ما يكون مطلوباً لولائم العيد وأيامه، حيث تفضل العائلات توزيعه على مَن تراه أحق به في احتساب للخير وامتنان وشكر لله على نعمته ورجاء دوامها من رب كريم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي