الفيل الذي ترك بصمته
كان ريتشارد هولبروك واحدًا من أكثر الدبلوماسيين الأمريكيين كفاءة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كان هيكله ضخمًا مثل ذَكَر الفيل، وكان يتمتع بعقل قوي وسحر ساخر. وفي كل مرة كان يتحرك فيها كان يترك علامة لا تمحى على الناس والأماكن في مختلف أنحاء العالم.
في الذكرى الأولى لوفاته في سن التاسعة والستين، أخرج أصدقاؤه وزملاؤه كتابًا كتحية تقدير وعرفان لهذا الرجل الذي وصفوه بتعبير ''الأمريكي غير الهادئ''. هذا الكتاب، الذي يشتمل كذلك على كتابات وخطابات هولبروك نفسه، لا بد أن يقرأه كل شخص يهتم بالخدمة العامة والسياسة الخارجية الأمريكية.
اشتهر هولبروك بأنه مهندس اتفاقيات دايتون، التي أدت إلى إحلال سلام هش في دول البلقان. وهذا الكتاب تذكرة بالإنجازات الكبيرة الأخرى التي حققها خلال عمله لمدة 45 عامًا في السلك الدبلوماسي. منذ بداياته الأولى في السلك الدبلوماسي في فيتنام إلى عمله كسفير في ألمانيا والأمم المتحدة وأخيرًا بصفته المبعوث الخاص في أفغانستان وباكستان، كان يجسد شخصية الرئيس تيدي روزفلت في الساحة. (الرئيس الأمريكي خلال الفترة من 1901 إلى 1909، والذي كان في طفولته عليلًا ومصابًا بالربو، لكنه أصبح من أقوى وأنشط الرؤساء الأمريكيين).
حين بلغ من العمر 27 عامًا، ألف كتابًا عن أوراق البنتاجون. ولعب دورًا رئيسًا في تطبيع العلاقات مع الصين. ويعود الفضل في إنقاذ آلاف الفييتناميين الذين هربوا في القوارب وإعادة توطينهم في الولايات المتحدة إلى إصراره على عدم ترْكِهم يغرقون في بحر الصين الجنوبي. وضغط على الكونجرس وتملقه في سبيل تسديد مليار دولار من المبالغ المتخلفة على الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة. وأطلق الأكاديمية الأمريكية في برلين. وكان شخصية تلهب الحماس في الصراع العالمي ضد الإيدز. (الفجوة الملحوظة في الكتاب هي عدم وجود تعليق حول مسيرته المهنية الموازية في ''وول ستريت''، حيث كان يعمل مصرفيًا استثماريًا متنقلًا وعضوًا في مجلس إدارة الشركة الدولية الأمريكية للتأمين، ''أيه آي جي'')
كان هولبروك قارئًا نهمًا، وكان يعزز مصالحه واسمه بعزم لا يلين، وأستاذًا في توهين عزيمة الصحفيين والموظفين العاملين تحت إمرته وإيقافهم بصورة مفاجئة. (كأن يقول مثلًا: ''لا فكرة لدي عن معنى هذا''). وأدى أسلوبه الجارح إلى إكسابه الأعداء ولعله كلفه الوظيفة التي كان يتوق إليها في السر، وهي منصب وزير الخارجية الأمريكية. لكن على حد تعبير أرملته، المؤلفة كاتي مارتون، فإن كثيرًا من مواقفه المتفجرة كانت مرسومة ومقصودة لتحقيق غاية محددة. في عام 1999، عشية حملة حلف حزب شمال الأطلسي (الناتو) الجوية على سلوبودان ميلوسوفيتش، والتي أدت إلى الإطاحة به، ناشد ميلوسوفيتش هولبروك قائلًا: ''أليس لديك أي شيء آخر لتقوله لي؟'' ويصف روجر كوهين، الصحفي في صحيفة ''نيويورك تايمز''، سحنة هولبروك الجامدة وهو يرد على رجل الصرب القوي: ''هاستا لا فيستا، بيبي Hasta la vista, baby'' (الوداع يا صديقي).
إن استخدام هذه العبارة المشهورة (التي جاءت على لسان أرنولد شوارزنجر في فلم ''تيرمناتور Terminator 2) وعبارات هوليوود المعروفة هو من صميم شخصية هولبروك. فقد كان رجل السياسة الاستعراضي. وبغض النظر عن أسلوبه الذي لا يُكبَح جماحه والذي كان أحيانا يتصف بالبلطجة (إلى جانب هواتفه الجوالة الثلاثة)، فقد كان كذلك صاحب مبدأ لا يخشى اتخاذ مواقف يكرهها الناس. وكان يسترشد في ذلك بفلسفة شاملة تستند على مسؤوليات أمريكا كقوة عظمى.
إن النزعة الوطنية الثابتة التي لا تعرف الخجل لدى هولبروك تعود في معظمها إلى جذوره – فقد كان والده طبيبًا روسيًا هاجر إلى أمريكا، وكانت والدته لاجئة من ألمانيا عن طريق الأرجنتين. وقد أدرك عوامل التوتر بين السياسة الخارجية القائمة على المبادئ والتي كان يؤمن بها الرئيس ويلسون، والسياسة القائمة على الطابع العملي لهنري كيسنجر. وقد رفض فكرة ويلسون على أنها إخفاق ساذج، لكنه في طابعه الساخر اعتبر كذلك أن السياسة الواقعية تقضي على نفسها بنفسها. ''لا نستطيع الاختيار بين الفكرتين – بل علينا أن نمزجهما معًا''.
كان هولبروك يؤمن بمنتهى القوة أن بإمكان الولايات المتحدة أن تكون قوة لصالح الخير. لكن استخدام القوة العسكرية كان وسيلة لتحقيق غاية، كما تبين من قصف ''الناتو'' الذي أدى إلى إحضار صرب البوسنة إلى طاولة المفاوضات. وقد ظل منتقدًا بصورة كبيرة للطموحات المغرورة لإدارة بوش الرامية إلى تحويل الشرق الأوسط وأفغانستان إلى واحة للديمقراطية.
كان هولبروك يحب صحبة الصحفيين وكان بكل سهولة يتبادل الأحاديث ويخلط بين الإشاعات والأفكار النيرة، حتى لو كان ذلك في بعض الأحيان حديثًا من جانب واحد. وكما اكتشفتُ، فقد كان من الممكن أن يكون أبًا روحيًا أو معذِّبًا، على حد تعبير الأكاديمية والكاتبة سامنثا باور، التي كانت تحظى برعايته. ويظهِر هذا الكتاب أن هولبروك كان نفسه كاتبًا جيدًا. ففي عمود في صحيفة ''نيويورك تايمز'' بعنوان ''يبلغ من القسوة حدًا يحول دون أن يكون ساحرًا''، فإنه يعطي أفضل تصوير لشخصية الرئيس الصيني السابق دينج كزياوبينج: ''تركز عيناه الصغيرتان عليك بحدة. ثم ينظر إلى الجهة الأخرى، بنظرة بعيدة، ربما باتجاه رؤية بعيدة نوعًا ما للصين التي يريد بناءها أو ربما يفكر في ذاكرة اعتزاز ماضٍ نجا منه في حياته المتقلبة بين التاريخ ومجاهل النسيان''. كان هولبروك في أسعد حالاته حين يكون في الميدان، ولذلك كان يمقت البيرقراطية. وكان يركز دون هوادة على النتائج العملية. وكان من المعروف عنه أنه قبِل وظيفة المبعوث إلى أفغانستان وباكستان في عهد الرئيس أوباما في حين أن كثيرين غيره يمكن أن يرفضوا هذه المهمة باعتبارها مستحيلة. وفي هذه المهمة ارتكب بعض الأخطاء، خصوصًا من حيث التعامل مع الرئيس الأفغاني المراوغ حامد كرازاي. في النهاية، ربما ساهم هذا التوتر في تهتك الشريان الأورطي الذي أدى إلى مقتله. لكن السجل سيُظهِر أنه كان عملاقًا في حياته. فقد أنقذ حياة كثير من الناس، وأدى عمله إلى نتائج ملموسة.