التلاعب المحاسبي في «أوليمبوس» اليابانية.. كيف تخفي الخسائر؟

مع صدور تقرير اللجنة المشكلة للتحقيق، لم ينته عام 2011 كما بدأ على شركة أوليمبوس اليابانية مُصَنِّعَة المناظير والكاميرات المشهورة Olympus Co، وذلك بعد أن اعترفت إدارة الشركة بإخفاء خسائر تكبدتها في استثمارات مالية مع انفجار فقاعة سوق الأوراق المالية في اليابان بنهاية الثمانينيات من القرن الماضي، أي قبل نحو 20 عامًا، وقام رئيس أوليمبوس شويتشي تاكاياما باتهام الرئيس السابق ونائبه المدير المالي للشركة بهذه الكارثة بعد أن نجت الشركة من الشطب من بورصة طوكيو للأوراق المالية بأعجوبة.
بدأت مشكلة أوليمبوس عندما بدأ الدخل التشغيلي للشركة يتناقص مع ارتفاع سعر الين الياباني عام 1985، في تلك الفترة قرر رئيس الشركة التوجه نحو الاستثمارات المالية الجريئة عالية المخاطر، لكن في عام 1990 انفجرت فقاعة سوق الأوراق المالية في اليابان، وزادت خسائر الشركة (غير المحققة؛ لأنها لم تقم ببيع تلك الاستثمارات بعد) بشكل جوهري من جراء مغامراتها، وبدلاً من حل المشكلة بشكل جذري والعودة لتطوير منتجات الشركة تنافسيتها الحقيقية، دخلت الشركة في نفق الاستثمار في أصول مالية عالية المخاطر، عالية العائد، لكن بدلاً من تعويض خسائر الاستثمارات السابقة زادت الخسائر وتراكمت بشكل خطير، ثم تركت تنمو حتى جاء عام 1998.
قبل عام 1998 كانت ''أوليمبوس'' تعتمد القيمة الدفترية في إظهار استثماراتها، لذلك لم تكن الخسائر تظهر للجمهور، ومع حلول عام 1998 تغيرت القواعد المحاسبية في اليابان مع الاعتراف بالقيمة العادلة للأصول بأنواعها (أي قيمة السوق أو أقرب تقدير مناسب)، وبذلك لا بد أن تظهر كل الخسائر غير المحققة إلى السطح الآن، وسيعرف العالم التخبط الذي وقعت فيه الشركة لسنوات طويلة، كانت الخسائر تقترب من 1.7 مليار دولار (أي أكثر من 6.3 مليار ريال تقريبًا).
بدلاً من مواجهة الواقع قررت الشركة إخفاء تلك الخسائر في عملية طويلة ومعقدة استمرت حتى عام 2005، أوردها بالتفصيل تقرير لجنة التحقيق الذي صدر في 6 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، ونشرته الشركة على موقعها. كيف تمت هذه العملية؟ كيف استطاعت ''أوليمبوس'' إخفاء هذه الخسائر طوال هذه المدة؟ كيف نجحت في إخفاء مبلغ 1.7 مليار دولار؟
رغم التعقيدات المحاسبية في هذه العملية إلا أنها تستحق العرض والدراسة لفهم وتوضيح خطورتها من جانب وخطورة المحاسبة الإبداعية من جانب آخر، ولأن القاعدة المشهورة في المراجعة قد سقطت تمامًا (الدليل من طرف ثالث مستقل دليل قوي)، هذه القاعدة لم تعد صحيحة بعد ''أوليمبوس''. الطرف الثالث يمكن أن يكون متآمرًا حتى لو بدا كأنه ليست له مصلحة.
لإخفاء الخسائر قامت شركة أوليمبوس بإنشاء شركات من نوع الصناديق الاستثمارية (Funds) غير تابعة (لا تظهر في القوائم المالية المجمعة للشركة)، ثم قامت شركة أوليمبوس بإيداع مبالغ وسندات حكومية مضمونة في ثلاثة بنوك حول العالم (سنغافورة، اليابان، أوروبا)، وطلبت من هذه البنوك أن يتم إقراض هذه المبالغ للشركات الجديدة (Funds)، وهذه العملية تمت بالاتفاق مع مديري البنوك الثلاثة على ألا يصرح البنك بجوهر هذه العملية إذا سأله المراجع القانوني، بل يؤكد وجود الحسابات فقط، وهكذا استطاعت الشركات الجديدة الحصول على القرض.
بعد حصول الشركات الجديدة (Funds) على المبلغ قامت بشراء الاستثمارات السيئة من ''أوليمبوس'' (والسيئة تعني) (لغير المتخصص)، (مثلاً) أسهم تم شراؤها بسعر 100 والآن أصبحت بسعر 10، فهي خاسرة وليس هناك أمل في تعديل السعر فتسمى سيئة)، كانت لدى شركة أوليمبوس وبقيمتها الدفترية (أي بسعر 100 كما في المثال)، وبذلك استطاعت ''أوليمبوس'' التخلص من تلك الأصول السيئة ودون خسائر تذكر، وعادت إليها أموالها التي دفعتها للبنوك. لكن المشكلة التي ظهرت في حسابات الشركات الجديدة وهو في كيفية سداد القرض للبنوك، لاحظ أن المبلغ ضخم جدًّا؛ أي أنه يجب على الشركات الجديدة النجاح في بيع الأصول السيئة والحصول على المال ومن ثَمَّ سداد القرض، ولذلك احتاجت ''أوليمبوس'' إلى خدعة محاسبية محكمة.
في عملية معقدة كتعقيد تقرير لجنة التحقيق قامت شركة أوليمبوس بالاستثمار في شركات صغيرة في السوق (شركات حقيقية) وبمبالغ كبيرة جدًّا وبشكل لافت، وقدمت عمولات للوسطاء بشكل مُبالغ فيه جدًّا، (وذلك كله بالاتفاق مع هذه الشركات والوسطاء)، بحيث يظهر أن الفرق (بين المبالغ التي تم دفعها من قبل شركة أوليمبوس والقيمة الحقيقية لهذه الشركات) كشهرة في حسابات ''أوليمبوس''. وبهذا استطاعت ''أوليمبوس'' نقل النقد إلى شركات أخرى، ثم قامت الشركات المشتراة باستخدام المبالغ الضخمة لشراء الأصول السيئة من الشركات الجديدة (Funds) التي عليها أن تقبض المبلغ وتدفعه للبنوك، ومن ثَمَّ فك حسابات شركة أوليمبوس في هذه البنوك.
نتيجة لكل هذه العملية المعقدة فإن حسابات ''أوليمبوس'' وقوائمها المالية لم تعد تظهر الأصول السيئة، ولم تعد هناك خسائر، بل فقط شهرة ضخمة بسبب استثمار في شركات واعدة لم تحقق المرجو منها بعد، وسيتم إطفاؤها إما بالتدريج وإما بشكل كامل وفقًا للمعايير المحاسبية. وستكون ردة فعل الأسواق المالية محدودة؛ نظرًا لأن عملية الإطفاء متدرجة، وأن السبب هو مجرد الاستثمار في شركات لم تقدم المتوقع منها بعد.
النتيجة المهمة التي انتهى إليها تقرير لجنة التحقيق في كل هذا الأمر، أن الإدارة يمكنها أن تفعل ما تريد فقط لأجل مصالحها، وأن تخفي قراراتها السيئة ومغامراتها بأموال المستثمرين، وأنها مشكلة ثقافية في الشركة، وأن عملية إخفاء الخسائر وتجميل القوائم المالية تتطور وتتعقد، وأن الحوكمة الجيدة للشركات قد تمنع مثل هذه التصرفات، وأن التواطؤ محتمل حتى من قبل أطراف متعددة، والاتكاء على المبادئ فقط لن يمنع مثل هذا التواطؤ. والأخطر في التقرير أن المراجعين القانونيين المتعاقبين على الشركة، وهم من الشركات الكبرى، فشلوا في تنفيذ مهامهم. والسؤال البسيط عندي، عندما نسمع عن شهرة ضخمة في شركة ضخمة، يتم إطفاؤها بشكل ضخم، فهل علينا أن نكون قلقين على إدارتها ومستقبلها؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي