قال الإمام النووي رحمه الله
جاءتني تعليقات على مقالي السابق (ما هو طموحك؟) ، أكثرها من أناس ظنوا أن طموحاتهم تحطمت بعد أن تخرجوا فلم يجدوا العمل ، أو وجدوا عملاً لا يتعلق باختصاصهم الذي درسوه في الجامعة.
وجوابي أن الإنسان يجب ألا ييأس وهو في طريق تحقيق طموحه. وضربتُ لهم مثلاً بنبي الله يعقوب عليه السلام الذي فقد يوسفَ ، أحب أولاده إليه ، وظن كل من حوله أن الصبي قد قضى ، أما هو فقال : (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
وأما يوسف عليه السلام فقصته مليئة بالعبر ، فقد أرادوا إبعاده عن والده فازداد حبه له ، وأرادوا أن يقتلوه فوهبت له الحياة الرغيدة ، وبيع مملوكاً ليصبح ملكاً ، وأُدخل السجن ظلماً ليخرج وزيراً. فمن يريد تحقيق طموحه عليه أن يتذكر أن لكل أجل كتاب وأن قطف الثمرة له أوان.
يظن الإنسان أن درباً معيناً هو الأفضل له ، فلا ينتبه لغيره. وتظن خريجة الجامعة أن الحصول على وظيفة هو الوضع المثالي ، فإن لم تحصل عليها تتخيل أن دراستها ضاعت سدى ، وتنسى أن وظيفة الأم المربية هي من أسمى الوظائف ، وأن علمها سوف يساعدها في هذه المهمة الراقية ، كما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم : الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق.
تذكرت الإمام النووي الذي أراد أن يكون طبيباً ، وبدأ في دراسة كتب الطب، ولكن نفسه عافتها ، فتوجه إلى دراسة علوم الشرع ، فبرع في علوم الحديث والفقه ، وإذا بنا نسمع أئمة المساجد كل يوم يقول أحدهم بعد صلاة العصر : قال الإمام النووي رحمه الله ، ثم يقرأ على الناس شيئاً من كتاب رياض الصالحين. تُرى لو أنه درس الطب فهل كان سيدعو له الناس في أنحاء العالم كل يوم؟.
كان طلاب العلم في القرن السابع الهجري يأخذون العلوم واحداً تلو الآخر ، أما النووي فحبه للتحصيل جعله ينتقل يومياً من حلقة إلى أخرى من حلق العلم. مما أهّله ليكون معيداً في دروس بعض أساتذته. والمعيد هو الذي كان يعيد وراء أستاذ الحلقة ليسمع الطلاب الذين يجلسون بعيداً ، حيث لم يكن هناك مكبرات للصوت ، أو يعيد الدرس على الطلاب الذين لم يحضروا درس الأستاذ. ومازالت هذه الكلمة تُستخدم في الجامعات للدلالة على الخريج الذي يساعد الأساتذة في الشرح للطلاب. ومن الطبيعي أن أستاذ الحلقة لا يختار لوظيفة المعيد إلا المتقن للعلم من طلابه.
وعلمه أدى إلى غزارة إنتاجه ، فترك لنا أكثر من خمسة وعشرين كتاباً خلال سنيّ حياته التي لم تكن سوى خمسة وأربعين عاماً. ومن كتبه التي انتشرت بين الناس (الأربعون النووية) ، جمع فيها أربعين حديثا مما يهم المسلم في حياته ، وكتاب (الأذكار) وفيه الأذكار والأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتاب (رياض الصالحين) الذي جمع فيه أحاديث شؤون العقيدة والحياة التي يحتاجها الإنسان ليكون من الصالحين.
على أن الإمام النووي لو كان بيننا اليوم لنصحته بأن يقبع في بلدته (نوى) التي أخذ لقبه منها، والتي تقع في منطقة حوران من بلاد الشام ، وما ذاك إلا خوفاً عليه أن يظنوه صاحب فكرة الانشطار النووي أو أول من أنشأ المفاعلات النووية ! فصديقي درس الهندسة النووية فكُتبت مهنته في جواز سفره أنه مهندس نووي ، ولم يدر في خلده أن هذا سيسبب له مشكلة عندما أراد أن يقضي إحدى إجازات الصيف في بلد عربي حيث استوقف في المطار واستجوب بعنف عن هدف رحلته ، ومن أرسله ، ولماذا أرسلوه ، ومن يريد أن يساعد في إنتاج أسلحة نووية .. الخ. وكان موقفا محرجا له ولأسرته التي كانت ترافقه.
وإذا كان الحدس عند الضابط المحقق منعدماً ، ولا يمتلك صفة الفراسة التي يتمتع بها العرب ، فقد كان عليه أن يدرك أن لو كان صديقي من أهل النوايا السيئة لما كُتبت مهنته في جواز سفره بتلك الصراحة.