قاومتْ بطلتي حتى النهاية ليس من أجلها فقط!

.. "المانجروف"، وتسمى بنبات الشورى، وبالقرم، تلك الشجيرة البحرية، نعمةُ البحار على الكائناتِ الصغيرة والكبيرة، نعمةُ البحار على البشرِ، ونعمة الله على البحار.
هذه الشجيرةُ الملحَمة، هذه الشجيرة التي تختصر معاناة هذه الأرض الوحيدة التي هي بيتنا الوحيد في الكون المترامي، هذه الشجرة التي تفصح عن قصة البقاءِ والكفاح للبقاء وحماية أنواع أخرى من الكائنات للبقاء فوق البقاء تمدنا بحكاية العطاء والتضافر الكوني لدفع دورات الحياة، هي الشجيرة التي تكتب تفتح أمامنا مغاليق سرّ حينما يكون البقاءُ هو الكفاحُ، وهو المقاومةُ، وهو الانبعاثُ من جديد.
هذه الشجيرة تعرضت لأقسى أنواع العدوان البيئي البشري وأضرّهُ، وأفدحه، فحُطـِّمَتْ بلا رحمةٍ، والذين حطموها شركاتُ الردم والتعميق الكبرى في العالم معززة ومدرعة بسماحٍ نظامي لتجفيف البحر من أجل نهْم الأراضي، أراضٍ كان باستطاعتنا الحصول عليها بمساحاتٍ شاسعةٍ موجودة في برارينا من الأزل، وتلك الشركاتُ والتراخيصُ العالمية تعلـَم حق المعرفة أن المانجروف والأجراف المرجانية من أهم مصاغ البحار وجواهرها، ومن أهم محفـِّزات ومغذيات بقاء بيئتها الحياتية.
يقول لي صديقٌ، إن من المناظر التي آذتْ حسَّه العاطفي، وكسرتْ قلبَه إلى اليوم، لما كانت تدفن بعض السواحل بين الدمام وسيهات والقطيف، ورأى بعينه كيف أن الشجيرة المشهورة بمقاومتها وصلابتها كانت تحارِب وتقاوم كل طرق التخلص منها تمهيدا للدفن، فما كان من القائمين على الدفن إلا أن أحضروا مقلاعا ضخماً برافعةٍ، وبشراسةٍ ضاريةٍ اجتـّثوا الشجيرات المتمكنة في الأرض من أصل عروقِها، ورأى بعينيْهِ كيف كانت تتساقط أفراخُ وأعشاشُ الطيور المهاجرة على الأرض لتدهسها المدْحلة الجبارة. نعم، فشجيرة المانجروف ليست فقط مأوىً للكائناتِ البحرية الدقيقة، أولُ دورات الحياة في البحار الساحلية، بل هي أيضا مأوى لأعشاش الطيور المهاجرة من كل صوب.. فمن يقتل شجرة مانجروف فكأنما قتل بيئة البحر والبر.
لذا، فإني سبق أن كتبتُ وشكرتُ وقدمتُ مداخلةً في الشورى ليقوم المجلسُ بشكر مدير شركة أرامكو ممثلا لشركته عندما قامت الشركة بحملةٍ ضخمة ومقدامة وتُدْخِل شركة أرامكو لعالم صداقة البيئة من أول أبوابها، والحقيقة الشركة وكل شركات النفط بكل مجالاتها ساهمت بشكل مريع بتلويث الهواء والبر والبحار، لذا جاء الوقت الآن لإداراتٍ جديدة تكفّر عما مضى وتدخل تقنية التنمية المستدامة كأيقونة عمل وليس مجرد نصوص نظام. لم تكن حملة "أرامكو" فقط استزراعاً لآلاف الشجيرات من نبات المانجروف، وهذه بحد ذاتها من أجَلِّ الأعمال البيئية الحياتية، ولكنها بُنِيَتْ أيضاً بفلسفةٍ فكريةٍ توعوية، وقـُدِّمَتْ بآليةٍ فيها من الذكاء العاطفي الصادق ما جعلها بالغة التأثير لمن حقاً يتأثرون.
لقد حرص القائمون على الحملة في "أرامكو" أن يوجهوا رسالة للمجتمع لم يقولوها.. وأوصلوها بأبلغ أنواع الإيصال ما يُفهم ضِمناً،لا ما يُسمَعُ جهرا. والرسالة الضمنيةُ تقول نحن شركة نفط، والنفط متهم بالتلويث، والحياة لم تعد قابلة للنمو دونه، وأن شركات النفط الواعية تفهم أن الهواءَ والماءَ والطعام لأولادهم كما هو لأولاد الناس أجمعين، لذا فإن حرصهم على البيئة يؤكد أنهم للنماء وللأرض، وأنّ بالإمكان مجاورة المجاليْن. ومن جهةٍ، كانت الحملة بلمعاتٍ تربوية تثقيفية لمعنى البيئة والارتباط بالأرض وبالوطن من خلال مائِه وساحلِهِ وسمائِه، فكان حضور الأطفال للمشاركة في الاستزراع تطوعا عملا أسميه بالعمل المجيد. لأنه يعيد صياغة الوعي الصغير على أهم عناصر الحياة: البيئة!
بوركـَتْ الأيادي الكبيرة والصغيرة التي استزرعت في ساحل خليج تاروت شجيرات المانجروف، أشجع النباتات على الأرض، فلقد تطهرّت بالطين الطافح، وبالماء المالح، في ذلك اليوم المنير.. وأسأل الله حبا بالبيئة وإعجابا منقطعا بهذه القوية والمكافحة شجيرة القرم (المانجروف) أن تهب المصالح الرسمية والجمعيات الأهلية وكل المختصين ومحبي البيئة أن تشجع حملات الاستزراع، وأن يقف التعدي الظالم على شجيرات الحياة في البحر، وأن يبقى يوم الخميس الذي دار عليه الآن أكثر من عام (على الأقل) والذي قامت به شركة أرامكو بحملتها المباركة أن يبقى بالنسبة لمحبي البيئة يوماً دوريا إن - شاء الله - لمساندة المانجروف حماية واستزراعا مساندة له في معركتهِ للبقاءِ.. والنماء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي