موقف الشارع التركي من التدخل في سورية
المتابعون للثورة السورية وموقف الحكومة التركية منها يرون بَوْنًا شاسعًا بين تقييم الشارع العربي للموقف التركي وتقييم الشارع التركي له؛ حيث يعتقد كثير من المواطنين العرب المتعاطفين مع الثورة السورية أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مقصِّر في دعم الشعب السوري الثائر، وأنه لم يفِ بالوعد الذي قطعه على نفسه حين قال ''لن نسمح بوقوع مجزرة حماة ثانية''، وفي المقابل؛ تتهم المعارضة التركية أردوغان نفسه بالتسرع والتورط في الأزمة السورية وتعريض تركيا للخطر.
الحكومة التركية تواجه جبهة عريضة ترفض أن تلعب تركيا دورًا في إسقاط النظام السوري، وتشارك في هذه الجبهة جماعات وأحزاب إسلامية وبعض أنصار الحزب الحاكم وقوى علمانية وشيوعية ويسارية وقومية. فهؤلاء رغم اختلافهم الجذري في أيدلوجياتهم وتوجهاتهم، إلا أنهم متفقون على بذل الجهود كافة من أجل تحييد تركيا في الصراع الدائر بين نظام الأسد والشعب السوري.
ومما لا شك فيه أن رأي الشارع في الأنظمة الديمقراطية يلعب دورًا في رسم السياسات واتخاذ القرارات، وإن كانت الحكومة غير ملزمة بأخذ رأي الأغلبية دائمًا، إلا أنها لا بد من أن تحاول إقناع الشارع بصحة قراراتها حتى لا تخسر شعبيتها وتسقط في أول انتخابات. ولذلك، تسعى حكومة أردوغان جاهدة منذ اندلاع الثورة في سورية لشرح الوضع وموقفها للرأي العام التركي، ولكننا لا نستطيع أن نقول إنها نجحت في هذه المهمة.
وأظهرت نتائج استطلاع للرأي أجرته شركة متروبول التركية في (آذار) مارس الماضي معارضة 71 في المائة من الذين سئلت آراءهم لتدخل تركيا وحدها عسكريًّا لإسقاط النظام في سورية، بينما يدعم 24 في المائة فقط هذا النوع من التدخل. واللافت في النتائج أن 64 في المائة من مجموع المعارضين لتدخل تركيا وحدها هم من مؤيدي حزب العدالة والتنمية الحاكم و79.6 في المائة من مؤيدي حزب الشعب الجمهوري و81.1 من مؤيدي حزب الحركة القومية. ولكن النسبة ترتفع عندما سئلوا ''هل تؤيد تدخل تركيا مع دول أخرى في إطار تحالف دولي؟'' ويجيب عن هذا السؤال 45.8 في المائة بـ''نعم'' و49.6 في المائة بـ ''لا''.
هذه النتائج لا تعني أن الأغلبية في تركيا مع النظام السوري، بل هي متعاطفة مع الشعب السوري، ولكن لديها مخاوف وهواجس بسبب عملية التضليل التي تمارس عليها. وهناك عوامل عدة أسهمت في تغذية هذه المخاوف التي تصب في نهاية الأمر لصالح النظام السوري.
ومن تلك العوامل، كراهية الولايات المتحدة والعقلية المؤامراتية، وبسبب هذين العاملين يعتقد كثير من المعارضين للتدخل التركي في سورية أن ما يجري في البلد الجار ليس ببعيد عن المؤامرات الأمريكية ومخططاتها لتقسيم المنطقة، وأن الدول الغربية تدفع تركيا إلى المستنقع السوري. ويجب ألا ننسى هنا أن الأتراك من أكثر الشعوب كراهية لأمريكا، ووفقًا لاستطلاعات الرأي فإن ثلثي الأتراك يعتبرون واشنطن أكبر خطر على بلادهم، ويحملون المشاعر والآراء السلبية تجاه الولايات المتحدة. ومما زاد من مفعول هذه الكراهية، مقالات الكتاب الذين يبحثون تحت كل حجر وشجر عن مؤامرة أمريكية لتفسير ما يجري في العالم.
ومن تلك العوامل أيضًا، أحزاب وجماعات إسلامية موالية لإيران ومروِّجة لدعايتها. فهذه الأحزاب والجماعات مهما كانت صغيرة لا يمكن تجاهل دورها في تجييش الشارع التركي ضد الحكومة التركية ولصالح طهران. والجماعات والأحزاب التي سلمت عقول أتباعها إلى الدعاية الإيرانية تتحمل في الدرجة الأولى مسؤولية وقوف كم هائل من المواطنين الأتراك بشكل مباشر أو غير مباشر في صف النظام السوري. ويأتي على رأس هذه الأحزاب حزب السعادة الذي قام رئيسه مصطفى كمالاك بزيارة بشار الأسد في دمشق. وحذَّر كمالاك في حوار أجرته معه قناة ''برس تي في'' الإيرانية من تدخل الناتو في سورية، وقال إن هذا النوع من التدخل من شأنه أن يحوِّل سورية إلى بركة من الدماء. ومنها أيضًا، حزب صوت الشعب الذي أسسه نعمان كورتولموش ورفاقه بعد انشقاقهم عن حزب السعادة. ويرى كورتولموش ـــ رغم فشل أردوغان في إقناع القيادة الإيرانية ـــ أن الحل الوحيد في سورية هو التعاون التركي الإيراني لإيجاد مخرج من الأزمة، متجاهلاً رغبة الشعب السوري ومتناسيًا أن طهران متمسكة بنظام الأسد ومتورطة في المجازر المرتكبَة في سورية. وانضم إلى كمالاك وكورتولموش أخيرًا رئيس حزب البعث التركي سزائي قراقوتش، وزعَم في المؤتمر الصحفي الذي عقده الأربعاء الماضي في مقر حزبه بإسطنبول، أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية تجر تركيا إلى فخ كبير في الشرق الأوسط وهو الحرب بين تركيا وإيران وسورية، ودعا قراقوتش إلى ''معالجة الأزمة في سورية بالقلم وليس بالسيف''!
ومن بين المعارضين لتدخل تركيا وحدها، شريحة متعاطفة مع الثورة السورية ومؤيدة لإسقاط النظام السوري ولو من خلال التدخل، إلا أنها تعترض على تقديم تركيا وكأنها هي فقط عليها التدخل لوقف المجازر وإنقاذ الشعب السوري من براثن نظام الأسد. ومن مخاوف هؤلاء أن يتهم القوميون العرب حكومة أردوغان بالسعي لاحتلال البلاد العربية وإعادة أمجاد الدولة العثمانية، وأن يحرِّضوا الشارع العربي ضد تركيا. وبالتالي، يدعو هؤلاء إلى أن يكون تحرك تركيا في إطار قرار دولي وبمشاركة عربية فعالة حتى لا تدفع تركيا الفاتورة وحدها.
وفي وسط هذه الآراء والانتقادات، تبذل الحكومة التركية جهودًا لنصرة الشعب السوري لا يمكن لأي منصف إنكارها، وقد نختلف في تقييم هذه الجهود غير أنه لا يسعنا إلا أن نسلِّم لها أن مهمتها ليست سهلة في ظل التخاذل الدولي وعرقلة المعارضة الداخلية.