عبد الفتاح.. خباز أمضى أكثر من نصف قرن خلف التنور
تدهشك حركته الآلية المتناسقة خلف التنور بين الأرغفة وأدوات التقاطها من لهيب النيران، تستوقفك خلفية المشهد حيث جهاز راديو معلق في الأعلى وموصول بمقبس كهربائي يردد آيات الذكر الحكيم من إذاعة القرآن الكريم.
يلفت انتباهك أكثر كشخص مولع بمراقبة الحالات الإنسانية، ذلك الضجيج النفسي الكبير في ذهن هذا الخباز المسن حيث الحركة الجسدية آلية محفوظة لكن العقل واللسان ينطقان بالتوتر والقلق، تقترب منه أكثر لتلقي عليه تحية الصباح وبعض الدعوات فيرد إليك المزيد منها مع دعوات حارة لتقديرك لما يقوم به من عمل.
هل تعلم كم عدد الأشخاص الذين أكلوا مما خبزت يداك؟ يضحك الخباز المصري قائلا: "إن الأهم أني أعرف منذ متى وأنا أخبز حيث 52 سنة مضت وأنا خلف التنور، بعد أن وقفت خلفه لأول مرة وأنا ابن 13 عاما". ويضيف "من يومها وأنا أخبز في بلدان كثيرة، الأردن، لبنان، العراق، وليبيا، ليستقر بي الحال في المدينة المنورة منذ 1991، وهو المكان الذي شعرت فيه بالاستقرار، حيث لا أعود إلى مصر وأنوي البقاء هناك بين أهلي في كل مرة، حتى أجد نفسي مجذوبا لهذا المكان".
يعاني أحمد عبد الفتاح الهموم، وهو يدفع الخبز إلى التنور بيد ويخرج بالأخرى ورقة مطالبات حقوقية تعترض أسرته في مصر بعد أن أدى اشتباك بين ولده وشاب آخر إلى مقتل الأخير. وهنا يوضح عبد الفتاح أن أهل الشاب القتيل قد قبلوا بأخذ الدية، إلا أن المبلغ لم يتسن جمعه بعد، وهو لا يملك سوى أن يعمل لعله يوفي ببعض هذا المال المطلوب بعد أن أمضى ولده قرابة أربعة أعوام في السجن.، كل هذا إلى جانب الالتزامات العائلية المعهودة التي تأخذ في الازدياد ليلخص الأمر في آخر المطاف بالقول: "أكل العيش مر يا بني، ومش بالساهل".
52 سنة أمضاها الخباز المصري أحمد خلف أفران المخابز في دول عربية عدة، كان يعيش خلالها خلف لهيب الحرارة ولسعات الأرغفة الساخنة، كثيرون هم من تزاحموا وأكلوا من أرغفته التي تخرج من تنوره، وقليلون هم من يقفون ليفهموا معاناته وسر همهماته. أعوام طويلة يصفها الحاج أحمد بالمرهقة لكن فيها طعم "العيش الكريم" وراحة البال باختيار الحلال من الرزق والطعام، وهو لا يرى مستقبله سوى في هذه الصنعة حيث يقول: "أمضيت عمري بهذا الشكل، ويمكن ربنا يفتكرني وأنا واقف الوقفة دي".